لم يكن أحمد عبود باشا اسمًا عابرًا في تاريخ الاقتصاد الملكي في عهد الملك فاروق، ملك مصر والسودان، بل كان ظاهرة متكاملة الأركان، صنعتها الطموحات الفردية، وكرّستها تحولات السياسة، ثم أسقطتها لحظة فاصلة بدأت مبكرًا هناك، في دائرة أرمنت بمحافظة الأقصر.
في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كان عبود باشا واحدًا من أغنى أغنياء مصر، بل والعالم. ثروة تُقدَّر بعشرات الملايين من الجنيهات، وإمبراطورية صناعية امتدت من السكر والأسمدة إلى النقل البحري والفنادق والكيماويات. وكانت قائمة ممتلكاته وحدها كافية لوضعه في مصاف كبار الرأسماليين الدوليين، لا المحليين فقط. لكنه، قبل كل ذلك، كان نموذجًا للرجل الوصولي الذي صعد من القاع إلى القمة.
وُلد أحمد عبود عام 1889 في حي باب الشعرية بالقاهرة، حيث كان والده يملك حمامًا شعبيًا. لم يرث ثروة، بل ورث حلمًا وطموحاتٍ مليونية. عمل في حمام أبيه، ثم التحق بمدرسة المهندسخانة (كلية الهندسة حاليًا)، وتخرج فيها، ليبدأ حياته العملية براتب لا يتجاوز خمسة جنيهات شهريًا. وكانت أرمنت، في صعيد مصر، أول اختبار قاسٍ لطموحه، حين عمل في «وابور تفتيش» يملكه مهندس فرنسي، قبل أن يُفصل من عمله.
من أرمنت إلى فلسطين، حيث عمل مع مقاولي الطرق والكباري، ونسج علاقات وثيقة مع قيادات الجيش الإنجليزي. وكان زواجه من ابنة أحد كبار ضباطه أكثر من مجرد قصة حب، إذ مثّل بوابة نفوذ فتحت له عالم المقاولات الكبرى. وخلال سنوات الاحتلال الإنجليزي لمصر وفلسطين، صنع عبود ثروته الحقيقية، مستفيدًا من النقل البحري وأسطول السفن، ثم بدأ شراء الأسهم، واحدة تلو الأخرى، حتى استحوذ على شركات كبرى مثل «ثورنيكروفت» و«البوستة الخديوية»، ثم شركة السكر بالحوامدية.
بلغ عبود باشا ذروة نفوذه الاقتصادي في الثلاثينيات والأربعينيات. امتلك شركات للأسمدة والكراكات والفنادق، وبنى عمارة الإيموبيليا عام 1939 في وسط القاهرة كأيقونة معمارية سكنت فيها نخبة السياسة والفن. وفي العام نفسه، حصل على لقب الباشوية، بعدما أصبحت ثروته تُقدَّر بأكثر من عشرة ملايين جنيه، وهو رقم مذهل بمقاييس عصره.
لكن المال وحده لا يكفي في بلد يتقاطع فيه الاقتصاد مع السياسة. انضم عبود باشا إلى حزب الوفد، ولعب دورًا سياسيًا مؤثرًا وصل إلى حد التدخل في تشكيل الحكومات. وتُسجِّل الوثائق البريطانية حضوره الدائم في لندن دفاعًا عن مصالح الوفد، ومعاركه المفتوحة مع خصومه. بل إن اسمه ارتبط بأزمة استقالة طلعت حرب من بنك مصر، في واحدة من أكثر اللحظات إثارةً للجدل في تاريخ الاقتصاد الوطني.
قبل ثورة يوليو المجيدة، ترشّح عبود باشا عن دائرة أرمنت في انتخابات مجلس النواب، وسقط سقوطًا مدويًا أمام منافسه ابن أرمنت، أبو المجد بك الناظر. بعد يوليو 1952 تغيّر المشهد؛ فُرضت الحراسة على شركات السكر التي كان يمتلكها في صعيد مصر، بما فيها مصنع سكر أرمنت، ثم جاءت قوانين التأميم عام 1961 لتُعلن نهاية عصر الرأسماليين الملكيين. وهنا تكرّر السقوط، لكن هذه المرة كان نهائيًا. غادر عبود باشا مصر، وهرّب جزءًا من أمواله، وباع أسطوله في موانئ أوروبا، واستقر متنقلًا بين إيطاليا ولندن.
في مطلع يناير 1964، توفي أحمد عبود باشا في لندن، بعيدًا عن الإمبراطورية التي بناها. وبين سقوطه الأول في دائرة أرمنت، وسقوطه الأخير أمام قوانين التأميم، تتجسّد حكاية رجلٍ صنعته الظروف الملكية والاحتلال الإنجليزي لمصر، ثم أطاحت به ظروف أخرى، في قصة تختصر صعود وهبوط الرأسمالية الملكية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين.
---------------------------------
بقلم: إبراهيم خالد






