20 - 12 - 2025

علي عبد العظيم .. رجولةٌ مبكرة!

علي عبد العظيم .. رجولةٌ مبكرة!

لم تتركه الحياةُ ينعم بدفء الأسرة، وعَطفِ الأب وتوجيهه زمنا طويلا، فسرعان ما رحل أبوه تاركا وراءه زوجة فقيرة، لم تنل أيَّ قسطٍ من التعليم، لكنها كانت رجُلا بما تحملُه الكلمةُ من معاني الصبر والجلد، وتحمُّلِ آلام الجوع وغصَّة الحرمان؛ لتوفر لصغارها كِسرةَ الخبز التي تقيم أودهم.

إثرَ وفاةِ زوجها، وفي صباح يوم، فارقتْ فيه البسمةُ وجهها، نادت الحاجة (سنية) الموجي ابنها الأكبر (علي)، بعدما جفّفت دموع عينيها قائلة: مات أبوك يا علي، وترك لنا حِملا تنوء بحمله العصبة أولو القوة من الرجال، بيد أنه لم يترُك لنا زرعا ولا ضرعا، فماذا ستصنع يا بنيَّ مع أخويك الصغيرين، وأمك المسكينة، التي لا تملك من حطام الدنيا سوى عافية جسدها، ولو كان بمقدورها أن تبيع جسدها من أجلك، وأجل أخويك لفعلت؟.

كان سؤال الأم لولدها أشبه بالصدمة الكهربائية، التي يلجأ إليها الطبيب ليُعيد مريضه إلى الحياة، فمسح عليٌ دموع عينيه، وتجاسر على لوعة فقد الأب والسند، الذي كان بالنسبة له، خيمة يلوذُ بها؛ هربا من أعاصير الحياة وتقلباتها.

وما إن أيقن عليٌ أنه لم يَعُد لهذه الخيمة وجود، حتى قال لأمه بإرادة صلبة: لنا الله يا أمي .. مُريني، وسأكون طوع أمرك ورهن بنانك!

كان الدرسُ قاسيا على طفلٍ لم يبلغ الحُلم، وليست له طاقةٌ على مواجهة قسوة الحياة، وما تُخبئه له الأيام من فقرٍ وحرمان .

أقضت مضحع الطفل وساوسُ الفكر، وتنازع في وجدانه هاجسان، إذ ناده طيفٌ من بعيد: لابد أن تترك التعليم، وتعمل أجيرا في غيطان الأثرياء؛ لتوفر لأمك وأخويك لُقمة العيش، وما إن استسلم لهذا الهاجس، حتى زلزل كيانه هاجسٌ آخر، استراحت له نفسُه يقول: ما لم يُدرك كلُّه لا يُترك جُلُّه، بمعنى أنه يُمكنُك أن تُمسِك العصا من مُنتصفها، فبدلا من أن تلتحق بالتعليم الثانوي، وما يعقبه من تعليم جامعي لا طاقة لك به، التحقْ بمدرسة المعلمين، وبهذا يُمكنك أن تعينَ أمَّك على تربية أخويك، ولا تحرم نفسك من التعليم وإكمال دراستك.

جعل عليٌ هذا الهدف نُصبَ عينيه، ولم يَحد عنه قيدَ أُنملة، إذ دأب على الذهاب للمدرسة صباحا، وفي المساء، وعلى ضوء مصباح (الكيروسين)، يلتفُ هو وأمه حول كومة من خوص السعف ليصنعا (مَقاطِف) جمع الخضر والفاكهة؛ ليبيعاها في السوق، ويشتريا بثمنها خبزا، يسدُّ رمق هذه الأسرة الفقيرة، وما يتبقى من وقت بعد فراغه من عمله مع أمه، يستغلُّه الطفل في مُذاكرة دروسه.

مرت الأيامُ الثقيلة ببطء، وأسهمت قسوتُها في غرس معاني الرجولة والتحمل في نفس عليّ. كان حالُ الأم المسكينة مع نجاح ابنها، يدعو للدهشة، فكلَّما مضى عامٌ، توَّجه عليٌ بالنجاح، استقام ظهرُ الأم، الذي حناه الفقرُ والزمنُ، حتى أنهى عليٌ دراسته بمدرسة المعلمين، فاستقام ظهر أمه صُلبا قويا.

بدأ عليٌ حياته العملية مُدرّسا إلزاميا بالمدارس الابتدائية، ينتقل من قرية إلي قرية، يؤدي عمله بشغفٍ وحب، منتظرا على أحرِّ من الجمر راتبه الشهري؛ ليدفعه إلي جيب أمه، حتى يساعدها في الإنفاق على المعيشة، وتربية أخويّه، اللذين، ومع مرور الأيام، استويا على سوقهما بمساعدة أخٍ كان لهما أبا بمعني الكلمة.

واصل عليٌ عمله بهمة لا تعرف الكلل، وعبقرية صنعتْ منه مُديرا لمدرسة إمياي الابتدائية القديمة، ليس له نظير، بعدما لعق الصبر، خلال رحلته العملية، فكان يعمل بالمدرسة في الصباح، ومُدرسا خصوصيا في الظهيرة نظير (مَقطفٍ) من الخضر أو الفاكهة، أو علبةٍ مملوءة ببيض الدجاج، تدسُها في حجره أمُّ الطفل،  فيحملها إلى أخويه وأمه، التي كثيرا ما كانت تهرع لمحل البقالة، وتُقايضَ بالبيض سلعا أخري، تحتاج إليها الأسرة.

خلقتْ هذه القسوةُ في نفس عليّ حَزْما وصلابة، صاحبهما عطفٌ ولينٌ، يحسّه كلُّ من نشأ محروما.

هذه الحزمة من المعاناة، مكّنت الأستاذ الراحل علي عبد العظيم من تحقيق معنى الإدارة الرشيدة، التي كان فيها نسيجَ وَحْدِه، وصار  بفضلها حديث القاصي والداني.

حبا اللهُ علي عبد العظيم ذكاء ونبوغا، جعله أولَ دفعته على الدوام، وإلي جانب نبوغه الدراسي، تميَّز بنبوغه العملي، وحبِّه لمهنته، وإخلاصه لها، وهو ما أهَّله ليرتقي في حياته العملية سريعا، حتى وصل إلي درجة مدير إدارة في سن صغيرة، وكان بإمكانه أن يتبوأ مناصب أعلى، لكنَّ إيمانه بأنَّ مساعدته لأمه وأخويه، ثم أسرته وأبنائه فيما بعد، زهَّده في اعتلاء الدرجات، التي كان أهلا لها .

الحاج علي عبد العظيم ـ طيب الله ثراه ـ هو واحدٌ من جيل الرواد بقريتنا، كان وسيبقى شمسا بلا أفول، وسيرة عطرة، نتفيأ ظلالها، ونستلهم منها معنى الإرادة الصلبة .
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام
 

مقالات اخرى للكاتب

علي عبد العظيم .. رجولةٌ مبكرة!