19 - 12 - 2025

"تعالى في الهايفة واتصدر": عن ضجيج التفاهة وصمت القضايا الكبرى

الانشغال بالهيافات ليس أمرًا عفويًا بالكامل، بل هو في أغلبه نتاج منظومة كاملة لإدارة الرأي العام. فالإعلام التقليدي ومنصّات التواصل يعملان وفق منطق الترند، منطلق "تعالى في الهايفة واتصدر": ما يُثير الغضب السريع، وما يُقسّم الناس إلى معسكرات أخلاقية متناحرة، هو ما يضمن الانتشار والبقاء في الصدارة. هكذا تُدفَع الوقائع الصغيرة إلى مقدّمة المشهد، لا لأنها الأهم، بل لأنها الأسهل تداولًا والأقل كلفة سياسيًا.

إن المثل الشعبي "تعالى في الهايفة واتصدر" مثل يصيب كبد الحقيقة فيما نحن عليه الآن. فالتصدر في القضايا التافهة أسهل، وأقلّ كلفة، وأكثر رواجًا على منصّات تُكافئ الإثارة السريعة والاصطفاف الأخلاقي السطحي. أمّا القضايا الوطنية الكبرى المعقّدة، القضايا الاستراتيجية كالطاقة، والديون المتراكمة، والاتفاقات الدولية فتعامل بوصفها ملفات "فوق النقاش" أو بمعنى أدق "محرمة النقاش"، أو شأنًا لا يفهمه سوى الخبراء الحكوميين. وهذه حيلة قديمة: تحويل السياسة إلى غرف مغلقة أو بمعنى أدق جحور مغلقة، والتعتيم على المواطن وتجريده من أدوات المعرفة والفهم، ثم يخرج ذات الخبراء الحكوميين لاحقًا للومه على  اللامبالاة. والحقيقة أن اللامبالاة هنا مُصنَّعة، ومفروضة بإيقاع يومي من التفاهة المُكثّفة.

جزء من المشكلة يعود إلى تحوّل بعض المثقفين والكتّاب إلى نجوم منصّات، يقيسون أثرهم بعدد المشاركات لا بوزن الأفكار. النجومية تُغري بالاصطفاف في المعارك الآمنة: معارك لا تقترب من مراكز القرار، ولا تُعرّض صاحبها لعزلة أو تضييق أو اعتقال أو مساءلة أو تربص. أما الاقتراب من ملفّات مثل صفقة الغاز مع إسرائيل، بما تحمله من أبعاد سيادية واقتصادية، فيعني الخروج من منطقة الراحة، وتحمل تبعات لا يرغب كثيرون في دفعها.

وهنا يُستبدل الدور التاريخي للمثقف ـ بوصفه شاهدًا وناقدًا ومُنذرًا ـ بدور المُعلّق السريع، الذي يُجيد السخرية والتجريح، لكنه يتجنّب التفكيك والتحليل. وبدل أن يكون المثقف جسرًا بين المعرفة والحرية والرأي العام، يتحوّل إلى جزء من الضجيج الذي يحجب الرؤية.

الحديث عن صفقة الغاز لا يعني إطلاق شعارات أو استدعاء انفعالات قومية جاهزة، بل يقتضي أسئلة محدّدة وواضحة: ما طبيعة هذه الصفقات؟ من المستفيد الحقيقي منها على المدى القصير والطويل؟ كيف تؤثر على استقلال القرار الاقتصادي؟ وما موقع مصر فيها: منتِجًا، أم وسيطًا، أم سوقًا مستهلكة؟ والأهم: ما الضمانات التي تحمي المصلحة الوطنية إذا تغيّرت موازين السياسة أو السوق؟ هذه أسئلة مشروعة، ولا يمكن اعتبار طرحها تهديدًا للاستقرار. على العكس، فإن تغييبها هو ما يهدد الاستقرار فعلًا، لأن الأوطان لا تُدار بالمسكوت عنه، بل بالشفافية والمساءلة المدروسة.

حين ينزلق النقاش العام إلى مراقبة الأجساد والسلوكيات الفردية، فإننا نكون قد انتقلنا من معركة المصير إلى معركة الإلهاء. لا يعني ذلك التقليل من شأن القيم الاجتماعية، بل وضعها في سياقها الصحيح: القيم لا تُصان بالضجيج، بل بعدالة اقتصادية، وثقافية وعلمية وبسياسات تحمي الناس من الفقر والتبعية، وبإحساس عام بأن المستقبل ليس مُرهَنًا لاتفاقات لا نناقشها.

الخلاصة أن معركة الوعي اليوم ليست بين متديّن وليبرالي، ولا بين صعيدي ومدني، بل بين من يريد إبقاء النقاش في دائرة الهامش والتغييب والتعتيم، ومن يُصرّ على نقله إلى قلب الأسئلة الكبرى. وما لم ينحز المثقف بوضوح إلى الأسئلة الكبرى، فسيظل شاء أم أبى جزءًا من مشهد الهايفة التي يتصدّرها الجميع، بينما تُدار الأمور الجادّة في صمت.
---------------------------
بقلم: محمد الحمامصي


مقالات اخرى للكاتب