رغم مضي أكثر من ثلاثة قرون على قانون نيوتن للحركة، (لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه)، إلا أنه ما زال صالحًا للتطبيق. استخدمه علماء الميكانيكا لتصميم المَركبات والسياسيون لتوقع وتفسير ردود فعل المنافسين.
حتى الآن، أجد صعوبة في تقبل رواية أن مقتل عمرو بن هند، ملك بنى المنذر، على يد ضيفه عمرو بن كلثوم، سيد تغلب، كان رد فعل على صرخة غضب والدة الأخير بعد ما ألحت عليها هند، لتناولها بعضًا من أدوات المائدة، فما سمع ابن كلثوم أمه تندب (وا ذلاه.. يا لتغلب)، حتى استل سيفًا مُعلقًا بقصر مُضَيِفه وقتله، ثم أمر رجاله فسلبوا القصر.
فُرضت علينا القصة وبعض من معلقته (أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَا)، سجل فيها مشاهد فروسية وبطولة وعزة نفس، ولا أدرى أين العزة والكرامة والإباء والشمم عند رجل سمع أمه تستغيث فقَتَلَ، قبل تحري الأمر، رجلاً أكرم وفادته وأنزله مَنزِلاً كريمًا، ويا ليته اكتفي، بل نهب وسرق وسبى، وكأنه ما ذهب لزيارة بل لغدر، فحشد من الرجال ما يُعِينُهُ على قصده. هذا إن صحت القصة من أصلها، أو أن أمه تعرضت لإهانة، وليست فرية ادعاها ليبرر ما أضمره في نفسه ومضى في تنفيذه.
وتُشير القصة إلى عدم استنكار العرب نسب أولادهم إلى أمهاتهم، لا من باب الجهل بآبائهم وإنما لمكانتهن ونسبهن الرفيع، فوالد عمرو بن هند وجده، المنذر بن امريء القيس، كانا ملكين، ومع هذا نُسب لأمه هند بنت الحارث الكِندي، كما نُسب أبوه المنذر لأمه، ماء السماء زوجة امريء القيس صاحب معلقة (قِـفَـا نَـبْـكِ مِـنْ ذِكْـرَى حَـبِـيبٍ ومَنْزِلِ).
أيضًا، عُرف السُليك بأمه، السَلَكَة، لجهلهم بأبيه، وإن ذكر البعض أنه ابن عُمير التميمى، ضُرِبَ به المثل في السرعة، فقالوا (أسرع من السُليك)، وكان شاعرًا ينتمي إلى الصعاليك من الشعراء. وقد وُصفوا بذلك لتمردهم على سلطة القبيلة، وتفضيلهم العيش في الصحارى عن الحَضَر، وقيل إنهم صادقوا الوحوش وأَنِسُوا بها. يقول شاعرهم الأُحَيمر السعدي (عَوى الذِئبُ فَاِستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذا عَوى :: وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ).
ومنهم أيضًا ثابت بن جابر، الـمُكَنَى تأبط شراً، يُحكى أن أمه تزوجت بعد وفاة أبيه فصار بينه وبين زوجها عداوة، يختلفان فيثور ويخرج من البيت يهيم في الصحراء أيامًا وأسابيع، ثم يعود لأمه فلا يلبث معها حتى يغضب ويفارقها. فلما سُئلت عنه ذات مرة، وكان غائبًا، قالت (تأبط شراً وخرج)، كناية عن شدة ما به من غضب، فعُرف بتأبط شراً.
أما عروة بن الورد فهو إمام الشعراء الصعاليك، كان يجمعهم ويطعمهم وينفق عليهم، ضُرب به المثل في الجود والزهد، لم يؤثر نفسه بشيء، يُغير على الأغنياء ويوزع الغنائم على الفقراء، فتلومه زوجته، سلمى، وكان قد سباها في إحدى غزواته ثم أحبها فتزوجها، فأنشد قصيدة مطلعها (أقِلِّي عَلَيَّ اللِّوْمَ يا ابْنَةَ مُنْذِر :: ونامِي فإنْ لم تَشْتَهي النَّومَ فاسْهَرِي).
قضَت سلمى عشر سنوات مع عروة ثم عادت إلى قومها على كُره منه، فأنشد فيها شعرًا شكا فيه حبه لها، فيما ظلت تذكره بالخير، حتى بعد زواجها من ابن عمها، فليس كل فِراق لكُره، ولسان حالهما يردد خلف امريء القيس (قِفا فاسألا الأطـلالَ عـن أُمّ مـالـكٍ)، تلك التى قال فيها (أغَرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي :: وأنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ).
--------------------------------
بقلم: د. م. محمد مصطفى الخياط
[email protected]






