بعد مقالي السابق عن الارجنتين ، وكما وعدت أواصل هذه السلسلة عن بعض تجارب تلك القارة الجميلة الساحرة ، التي عشت فيها فترة من أسعد سنوات حياتي ، وتعلمت فيها كثيرا ..
2. تشيلي:
هذا البلد الجميل الراقي والذي كان مفخرة القارة اللاتينية في الديمقراطية وتداول السلطة، تعرض لمؤامرة رهيبة شاركت فيها المخابرات الأمريكية، والداهية كيسنجر، بهدف إلغاء ما أسفرت عنه صناديق الانتخاب وفوز اليساري سلفادور الليندي بالرئاسة .. وبعد عمليات إغتيال وحصار إقتصادي، تم تحريك بعض الجنرالات الذين كانوا علي قوائم أجور المخابرات المركزية الأمريكية، فقاموا بالانقلاب علي الرئيس واغتياله في قصر الرئاسة لأنه قرر المقاومة.. وعاشت تشيلي بعد ذلك أسوأ سنوات تاريخها ..
وقد تزعم الانقلاب الجنرال أوجستو بينوشيه، الذي ولد يوم 25 نوفمبر 1915، وعاش طويلاً حتي مات في 10 ديسمبر 2006 عن عمر يناهز 91 عاماً، وقد حكم تشيلي منذ الإنقلاب العسكري عام 1973 وحتي عام 1990، وقد كانت فترة حكمه مثالاً للإرهاب والقمع السياسي، فقد تم قتل وتعذيب آلاف المعارضين، وكانت الممارسات تجاه المعتقلين غاية في الوحشية.
في عام 1980 تم إقرار دستور جديد لتشيلي بحيث يطبق نظام الاستفتاء علي مرشح واحد للرئاسة، إلا أن المعارضة السياسية للنظام كانت في تصاعد مستمر، مما أدي إلي أن البرلمان التشيلي رفض عام 1988 أن يمنح بينوشيه حق حكم البلاد مدي الحياة، ومع ذلك ظل الرجل القوي مسيطراً علي مقاليد السلطة والثروة من خلال طبقة من الإنتهازيين، فضلاً عن نفوذه الواسع بالطبع في المؤسسة العسكرية.
إلا أن استمرار ضغوط المعارضة والإنتقادات الدولية أجبرته أن يسلم الحكم للرئيس المنتخب باتريسيو ايولين عام 1989، دون أن يتخلي عن منصبه كقائد للجيش التشيلي حتي عام 1990، وبعد ذلك أصبح نائباً في مجلس الشيوخ طبقاً للتعديلات الدستورية التي تمت عام 1980 كي يظل متمتعاً بحصانة تحول دون محاكمته علي جرائمه.
وهكذا كان القاضي الذي اختار "حكم سليمان" في تشيلي هو الشعب نفسه، رغم المظاهرات التي قام بها "يتامي بينوشيه" ودموعهم الهتون علي البطل القومي العظيم الذي أنقذ البلاد من الشيوعية، وحافظ علي الاستقرار وحقق "المعجزات" الإقتصادية!!..
وفي عام 2002 وأثناء رحلة علاج في بريطانيا، تم اعتقال بينوشيه الرهيب من خلال تفويض قضائي أصدره أحد القضاة الأسبان، وظل الرجل رهن الإقامة الجبرية في بريطانيا لمدة عام، وهو يشعر بالذهول من مشاعر مواطنيه الذين فرحوا لما ناله.
لا بد أن الجنرال غضب أشد الغضب علي إنعدام الوفاء لدي الشعب الذي عذبه وخوّفه وقتل أبناءه لسنوات طوال.. ولأن القضاء بشكل عام يتميز بالنزاهة والعدل، فقد تم إطلاق سراحة لأسباب طبية، ولا بد أنه اندهش مرة أخري من غباء القضاء الذي أطلق سراحه رغم جرائمه الثابتة..
لكنه عاد في النهاية إلى تشيلي، كي يتم خلعه أيضاً من مقعده البرلماني، وبعد قرار من المحكمة العليا بأنه يعاني من الخرف والشيخوخة ولا يمكن بالتالي أن يُحاكم لأفعاله، وهو ما تأكد في مايو 2004 عندما حكمت المحكمة العليا أنه لا يتحمل المحاكمة نظراً لشيخوخته.
كتب عليه أن يعيش مطاردا بشبح الليندي وآلاف الضحايا ، وأن يموت حزينا منكسر القلب ، دون أن يفهم كيف انقلب عليه شعب تشيلي الذي كان يهتف بحياته في كل مكان .. (يتبع)
----------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق







