18 - 12 - 2025

نقد أدبي | بطل الغروب.. رد الاعتبار للمهزوم النبيل

نقد أدبي | بطل الغروب.. رد الاعتبار للمهزوم النبيل

تشكّل السيرة الهلالية مصدرا للخيال الجمعي في مصر والوطن العربي، فهي قصة الترحال والبحث عن الأرض الخصبة، وصراع الفروسية، وانكسار القبائل أمام أقدارها. وفي قلب هذه السيرة يبرز الزناتي خليفة، ملك تونس العجوز الذي يتجاوز المائة عاماً لكنه يظل يقاتل وحيداً دفاعاً عن بلاده. 

وحين نقرأ مسرحية "بطل الغروب" للكاتب أحمد سراج ندرك منذ الصفحات الأولى أننا لسنا أمام نص عابر يعيد صياغة أحداث "السيرة الهلالية"، بل أمام عمل يعيد مساءلتها، ويستدعي صورة الفارس النبيل – الزناتي خليفة – ليضعه في قلب حاضرٍ عربي مأزوم. ويوازن بين الوفاء للمتخيل الجمعي والانحياز لرؤية معاصرة تجعل من السيرة أداة وعي بالذات وبالوطن.

بنية المسرحية

تتكون المسرحية من فصلين طويلين، يتفرعان إلى مشاهد تتراوح بين قصر الزناتي، معسكر الهلالية، ميادين القتال، وخيام الفرسان. البنية تتسم بالتصعيد التدريجي، فالمشهد الأول يبدأ بانكسار الزناتي وتنازله عن العرش شكلياً، لكن سرعان ما يتحول الانكسار إلى مقاومة بطولية تستمر حتى النهاية،

هذه البنية القائمة على التوازي بين معسكرين (الهلالية – أهل تونس) تمنح النص إيقاعاً ملحمياً، وتضع القارئ أمام جدلية "الغازي والمدافع"، "الضيف والمضيف"، "الخيانة والوفاء". وكلما تقدمت المشاهد اكتشفنا أن الصراع ليس عسكرياً فحسب، بل أخلاقي وفكري في جوهره.

بين الأسطورة والإنسان

من أبرز عناصر جماليات النص بناء الشخصيات، حيث تتجاوز حدود النمط الشعبي لتكتسب عمقاً إنسانياً:

الزناتي خليفة: شيخ تجاوز المائة، تقدمه المسرحية كفارس خارق، وأيضا كأب، وشيخ، وحاكم يحمل هموم شعبه. يقول: "أنا سورٌ من أسوار تونس؛ فإن انقضيت فأسوار الطمي لا تنتهي".

 سعدى ابنته: تمثل الامتداد الروحي لأبيها، وتعيد إلى الأذهان صور النساء اللواتي تحوّلن في السير إلى رموز للوفاء والتضحية.

أبو زيد الهلالي: ليس الخصم المطلق، بل محارب تائه بين واجبه تجاه قومه وإعجابه ببطولة الزناتي. في لحظات كثيرة يبدو وكأنه يود لو كان إلى جوار خصمه لا في مواجهته.

عامر الخفاجي: ضيف الهلالية، الفارس العراقي الذي يقع في صراع داخلي بعد مبارزته للزناتي. حواره مع ابنته ذؤابة يكشف عن التباس القتال حين يصبح العدو شريفاً.

دياب بن غانم: المحارب الذي ينزع عنه النص صفات الفروسية ليجعله رمز الغدر والخيانة، فهو يطعن الزناتي في عينه غدراً، محققاً نبوءة الرمل.

هذا التباين بين الشخصيات يثري المسرحية، إذ تتحول البطولة من مجرّد مهارة بالسيف إلى قضية شرف ووفاء وانحياز للأرض.

بين الملحمة والتراجيديا

تقف مسرحية بطل الغروب على طرف نقيض من سردية السيرة الهلالية الكلاسيكية، التي اختزلت الصراع في ثنائية "الهلالي الغازي"، و"الزناتي المدافع" المتعنت المستبد. هنا، يعيد أحمد سراج رسم المشهد بوصفه نزاعًا بين صاحب الأرض المدافع عن ترابه، وبين غزاة جاؤوا لاجتياح الأرض. وبذلك، تتحول الرواية إلى قراءة مضادة للتراث، تُسائل مفاهيم "الفتح" و"الحق" وتكشف هشاشة الادعاءات الأخلاقية التي حملها الهلاليون في غزوهم.

الزناتي خليفة، بحسب النص، هو الرجل الوحيد الذي ظلَّ على جواده حتى غروب الروح. ليس فقط فارسًا أسطوريًّا تجاوز المئة من العمر، بل حاكمٌ عادل، وقائد يقف بنفسه على الميدان، ويطوف على بيوت الشهداء، ويطعم الجوعى من خصومه. بطل غروب ليس لأنه يُهزم، بل لأنه يختار الموت واقفًا، دفاعًا عن وطنٍ لم يتخلّ عنه. يتحول الزناتي في هذا النص إلى رمز للكرامة والسيادة، تحتشد حولها القيم النبيلة التي أهدرتها الحرب.

يتكئ النص على بناء ملحمي، يُستعاد فيه الطقس البطولي من خلال صراع فردي تتكرر فيه المنازلات، لكنه يستخدم تلك البنية لتكثيف البعد التراجيدي. فالزناتي لا يُقتل في ساحة نزال شريف، بل يُطعَن من الخلف، فضلا عن تعرضه للخذلان والخيانة. هنا تتقاطع البطولة بالتراجيديا. 

 تنفتح المسرحية على مستويات متعددة من التأويل، لعل أبرزها القراءة المعاصرة، حيث يمثل الزناتي رمز الأرض في وجه غزوات الداخل والخارج، وسقوطه الغادر يكشف عن مأساة من يظل قابضًا على مبادئه في زمن المساومة والخيانة والغدر. ويبدو أن سراج لا يدافع عن الزناتي بوصفه فردًا، بل يراه نموذجًا للوطني الشريف في زمن الخراب. كما تتضمن المسرحية نقدًا ضمنيًا للخطابات القومية القائمة على الدم والنسب، إذ تتكشّف الخديعة في مسألة القرعة الملفقة، والغزو المُقنَّع، والتحالفات المريبة. وحتى الضيف الشريف (الخفاجي عامر) الذي يشارك في القتال باسم الواجب، ينتهي مطعونًا من الخلف، ما يؤكد مأساوية الانخداع بالرايات البراقة.

وتنتهي المسرحية بموت الزناتي، فيبدو موته غروبا لشموس القيم النبيلة. يموت الزناتي في مشهد يتجاوز الفعل المسرحي إلى الرؤية الفلسفية. وهكذا، يغدو "بطل الغروب" نصًا عن البطولة التي لا تنكسر تحت أقدام الغدر.

دياب بن غانم بطلا مضادا

في فضاء السيرة الشعبية العربية، تبرز شخصيات ذات سمات نمطية واضحة، الفارس، الغريم، العاشق، القائد، إلا أن ما يفعله الكاتب أحمد سراج في مسرحيتيه "بطل الغروب" و"الذئب التائه" هو تفكيك هذا البناء الجاهز، وإعادة صياغته بمنظور معاصر، أكثر تعقيدًا وإنسانية. تأتي شخصية دياب بن غانم بوصفها أكثر هذه الشخصيات تعرضًا للتحول، من نموذج للخصم الغادر في بطل الغروب، إلى بطل مضاد مأزوم ومتصدع في الذئب التائه.

في "بطل الغروب"، يظهر دياب بوصفه خصم الزناتي الأخير، ويُقدَّم على نحو درامي يرسّخ صورته كـنقيض لكل ما مثّله الزناتي من شرف وولاء للأرض. إنه لا يبارز بشرف، بل ينتظر لحظة الخداع، ويطعن الزناتي من الخلف. ومع أن النص يمنحه القوة الجسدية والمهارة القتالية، فإنه يجرده من صفات الفروسية الأخلاقية.

تتكثف هذه الصورة في عباراته المفعمة بالازدراء، وفي تهديده للنساء، وفي خضوعه لسلطة (النبوءة)، كما في موقفه المتعالي على السلطان حسن وأبوزيد. تمثل هذه السلبية الأخلاقية جذرا داخليا لتناقض أكبر، يبدأ في التشكل منذ لحظة إدراكه لنسبه إلى الزناتي، وإلى قبيلة الزغابة ذاتها، هكذا، يقدمه النص بوصفه الآخر العدائي، لكنه الآخر القريب دمًا، والبعيد روحًا، وهو ما سيُستعاد لاحقًا ليُعاد تأويله بالكامل.

وفي "الذئب التائه"، تتحول مسيرة دياب من ساحة المعركة إلى متاهة نفسية داخلية، فيصبح كائنًا يقتفى أثر ذاته الممزقة، محمّلًا بأسئلة الوجود والانتماء. هنا، لا نراه من الخارج كما في بطل الغروب، بل نسمعه من الداخل، يتحدث عن الشعور بالدونية، عن الحرمان، عن محاولاته للانتماء لجماعة لفظته،  فتصبح شخصيته تجسيدًا لـلذئب الذي فقد جماعته، ويتحول سلوكه العدواني من كونه رغبة في السيطرة إلى صرخة احتجاج.   

 في هذا السياق يستخدم أحمد سراج في بناء الشخصية، تقنيات درامية ونفسية دقيقة، منها الانفصال بين الجسد والهوية، فدياب جسور في ساحات القتال، لكن يعاني من نقص في تقديره لذاته، وهو يشعر بالرغبة في الاعتراف مقابل الإقصاء المتكرر، "أنا فارس بلا عرش.. ذئب بلا قطيع"، كما يرد على لسانه، هذا كله يحول دياب إلى بطل مضاد، لا يمكن اعتباره خصمًا خالصًا، ولا بطلًا تراجيديًا مكتملًا، بل نموذجًا معاصرًا يعكس تشظي الذات.

المفارقة الرمزية بين العملين

في بطل الغروب، يمثل دياب لحظة الغدر الأخيرة، وكأن وظيفته درامية فقط، بينما في الذئب التائه، يتحول إلى كيان درامي رمزي يجسد سقوط الفرد في مواجهة خطاب القبيلة، والبطولة، والنسب، والتاريخ.  وهكذا، يشتبك العملان في خطين متوازيين،  الأول يعرض القناع/السلوك، والثاني يكشف الوجه/الندبة.

هكذا، يُمكن القول إن أحمد سراج أسس شخصية دياب بن غانم في "بطل الغروب" كي يهدمها فنّيًا في "الذئب التائه"، ويعيد بناءها على أنقاض تناقضاتها. فدياب ليس عدو الزناتي فحسب، بل المرآة المظلمة له. وحين يطعنه، لا يقتله فقط، بل يؤكد موته الداخلي هو نفسه، لا يصبح "الذئب التائه" عن دياب فقط، بل عن كل ذات فقدت مكانها في التاريخ.
--------------------------------
بقلم: أحمد رجب شلتوت