يقدم الفيلسوف اللغوي، والمفكر السياسي العالمي الأمريكي الجنسية، نعوم تشومسكي (1928- )، في كتابه "لأننا نقول ذلك"، الذي ترجمه إلى العربية الأستاذ أحمد الزبيدي وصدر عن دار المدى، تشريحًا جذريًا لعقل السلطة المعاصرة، السلطة التي يشير إليها تشومسكي في هذه الكتاب لا تنصرف فقط إلى السلطة الأمريكية التي يدرسها ويشرحها، وإنما تنصرف إلى السلطة كما تمارس في أي موقع أو مكان يسود فيه منطق الحكم على منطق الحق، حق المواطن بوصفه صاحب السيادة الأصلي، الذي تصادره السلطة حتى لو كانت سلطة منتخبة مفوضة من غالبية الناخبين، فالخطر الحقيقي الذي يوضحه تشومسكي لا يكمن فقط في القرارات الجائرة، وإنما في تطبيع هذه القرارات أخلاقيًا وإعلاميًا، الأمر الذي يجعل هذا الكتاب "وثيقة اتهام" ضد "منظومة عالمية تُدار بمنطق القوة لا العدالة، وما تراه السلطة، وليس باسم القانون أو الأخلاق.
ثقافة السؤال والتفكير النقدي
كشأن أي عمل نقدي، يدعو الكتاب القارئ إلى طرح أسئلة حول من يملك العالم؟ ومن يحدد من هو “الضحية” ومن هو “الإرهابي”؟ ولماذا تُمحى بعض الجرائم من الذاكرة الجماعية بينما تُضخّم جرائم أخرى؟ كما يدعو القارئ إلى التشكك في منطق وآليات السلطة المعاصرة التي جعلت مفاهيم مثل "الشرعية" و"الديمقراطية" و"الأمن"، ستارا يحجب حقيقة "القوة، والهيمنة، وتزييف الوعي العام"، التي تقوم عليها السلطة القائمة فعليًا، فالقرارات تُتخذ لأن الأقوياء يقررون ذلك، ويملكون وسائل فرضها، إعلاميًا وسياسيًا، وليس لكونها عادلة أو قانونية أو أخلاقية. وفي هذا السياق تحوّل الإعلام من كونه سلطة رقابية إلى أداة لتبرير السياسات، وتُفرغ الديمقراطية من مضمونها.
الهجوم على التعليم العام وعقيدة الصدمة
لكن النقطة الأهم في كتاب تشومسكي هو ما يراه من هجوم على التعليم العام، وهي النقطة التي تطرحها الصحفية والناشطة الكندية نعومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة"، ويحدد تشومسكي الهدف من هذا الهجوم فيما يلي: إنتاج مواطنين مطيعين لا ناقدين؛ تحويل المعرفة إلى سلعة؛ وتفريغ الجامعة من بعدها الأخلاقي والسياسي. ويرى تشومسكي الذي تحتل قضية فلسطين وقضايا الشرق الأوسط بشكل عام حيزا كبيرًا من تفكيره واهتمامه، أن قضية فلسطين ومشكلة غزة تقدمان نموذجًا كاشفًا لطبيعة السلطة المهيمنة التي تتعامل مع القضايا المختلفة ومع العالم بمعايير أخلاقية مزدوجة، لإخفاء حقيقة التهديد الوجود الذي يتعرض له العالم بسبب ممارسات السلطة التي يرى تشومسكي أنها تُعبر عن الرأسمالية في توحشها، والتي باتت تشكل تهديدًا وجوديًا للعالم، بما تنطوي عليه من تكريس للتفاوت الطبقي وتزايد الهوة بين الأغنياء والفقراء على الصعد الوطنية، وعلى الصعيد العالمي، وبما تشكله من تهديد للبيئة وعسكرة السياسة.
عقيدة الأمن القومي
ربما يلخص مفهوم “الأمن القومي” الذي يُستخدم لتبرير المراقبة "الشاملة" و"السائلة"، للناس وانتهاك حقوقهم، بما في ذلك انتهاك حرمة الحياة الخاصة للمواطنين عبر تشريعات تصدر بزعم حماية "الأمن القومي" والي تختص السلطة حصرًا بتعريفه، وهو ما تعكسه الفلسفة الحاكمة للتشريعات الوطنية، وتهميش القانون الدولي أو الالتفاف عليه والتلاعب به، بما يخدم مصالح النخب الحاكمة. وكشف إدوارد سنودن، تقني المعلومات الذي انشق على جهاز المخابرات المركزية الأمريكية لأسباب سردها الفيلم الذي تناول قصة انشقاقه، والذي كشف "هشاشة الحرية" وفضح أكذوبة خطاب “الدولة الديمقراطية الشفافة”.
المقاومة المدنية الواعية أو الانحدار والفناء
الرسالة التي يختتم بها تشومسكي كتابه تقول إما أن يمتلك الأفراد والمواطنين في شتى أرجاء العالم وعيًا نقديًا ويطورون آليات للمقاومة المدنية العالمية، أو أن يستمر الانحدار نحو كوارث لا رجعة فيها، ومن هنا تبرز أهمية هذا الكتاب، إلى جانب كتب تشومسكي الأخرى، وغيره من الكتابات النقدية، في الدعوة الصريحة إلى تفكيك الخطاب الرسمي؛ ورفض الطاعة الفكرية، واستعادة معنى الصالح العام، وإدراك أن الديمقراطية تُقاس بقدرة الناس على المعرفة والمساءلة، وهما جوهر الديمقراطية وقلبها النابض، أما اختزال الديمقراطية في الانتخابات فقط وتعطيل آلياتها الأخرى، لا يفعل شيئًا سوى تكريس الاستبداد، الذي يشكل الانفراد بالسلطة، والتلاعب بها لعزل المواطنين وتهميشهم جوهرها.
--------------------------------
بقلم: أشرف راضي






