18 - 12 - 2025

انتباه | بورسعيد.. عودة النصاب

انتباه | بورسعيد.. عودة النصاب

كان يمكن للحديث عن تمثال ديليسبس أن يبقى حوارًا ثقافيًا محدودًا، لولا أن المسألة انفجرت على نحو يكشف ما هو أعمق من قطعة برونز قديمة وما هو أبعد من قرار محلي. فكلما اقتربت الأصابع من منصة بورسعيد الخاوية، بدا كأنها تلامس عصبًا حساسًا في الوعي المصري، ذلك العصب الذي يفرّق بين الذاكرة الحيّة والذاكرة المُصادَرة، وبين ما تريد الأمة أن تتذكره وما يريد البعض أن تُجبَر على نسيانه. 

إن إعادة ديليسبس ليست عودة تمثال، بل عودة سردية كاملة؛ سردية المستعمر حين يتجمل في هيئة "مُحسِن"، وحين يتحول العدوان في دفاتر البعض إلى مشروع حضاري يستحق الاحتفاء.

المنصة التي ظلت خاوية منذ أن أُزيل التمثال عقب العدوان الثلاثي عام 1956 لم تكن فراغًا عبثيًا، بل فعلًا مقصودًا، إعلانًا في الهواء الطلق بأن مصر لا تُخلّد من خدعها ولا ترفع فوق أرضها اسمًا من أسماء التواطؤ الاستعماري. 

كان ذلك الفراغ نصًا بلا حروف، لكنه واضح بما يكفي ليقول إن التحرير ليس مجرد حدث في التاريخ، بل معنى يجب أن يحرسه الوعي.

المعركة اليوم حول إعادة التمثال إلى منصته التي انتزع منها ليست سوى دعوة بائسة إلى إلغاء هذا المعنى، واستبداله برواية ترى في الرجل فضلًا، وفي الاحتلال مشروعًا، وفي دماء العمال الذين حفَروا القناة مجرد تفاصيل يمكن محوها بقرار إداري.

الحجج التي يرفعها دعاة إعادة التمثال ليست جديدة. هي ذاتها التي رددها المستعمرون قبل قرن ونصف: إن ديليسبس "صاحب فضل"، وإن القناة مدينة له. 

هكذا تُعاد صياغة السُخرة باعتبارها "مساهمة"، ويصبح موت عشرات الآلاف حادثًا جانبيًا في مسيرة "تقدم"، ويغدو الرجل الذي خدع الخديوي سعيد، وانتزع الامتياز بشروط مهينة، ومنح الأساطيل البريطانية طريقًا آمنًا نحو احتلال مصر، رمزًا صالحًا للاحتفاء. 

إنها محاولة مكشوفة لوضع التاريخ في قوالب زائفة، حيث تُجرَّم المقاومة ويُعاد إنتاج الهزيمة باعتبارها حكمة سياسية.

في الجوهر، فإن ما يطرحونه ليس مجرد رأي، بل رؤية للعالم: رؤية تعيد الاعتبار لمنطق التبعية، وتُجرّم المقاومة، وترفع الهزيمة إلى مقام الرشد السياسي.

والمنصة الخاوية في بورسعيد، التي يحاول البعض ملأها اليوم، ليست نقصًا في معلم سياحي، بل جزءًا من ذاكرة المدينة التي قاتلت ببسالة في وجه العدوان الثلاثي. 

لقد بقيت تلك المنصة فارغة لأنها تحمل معنى لا يستطيع التمثال أن يحمله؛ ولأنها تقول، بصمتها، إن البلاد قاومت. 

إعادة التمثال ليست ترميمًا لمشهد، بل محاولة لملء الفراغ بالهزيمة، وإعادة إنتاج سردية تُجمّل المستعمر وتُهين أصحاب الأرض. 

إنها خطوة لا تُحرّك السياحة، بل تربك الوعي، وتحوّل تاريخ المقاومة إلى ديكور فوق منصة، لا تاريخًا يحرس مدينة.

ذلك الفراغ ليس عيبًا يستدعي الإصلاح، بل حضورًا آخر من نوع مختلف: حضور الكرامة حين تتجسد في مكان. 

وإعادة التمثال لا تعني تحسين وجه المدينة، بل تشويهه؛ ولا تعني تطوير السياحة، بل إرباك الوعي؛ ولا تضيف إلى تاريخ مصر شيئًا، بل تحذف منه الكثير.

أما ديليسبس نفسه، الذي يسعى البعض إلى تمجيده، فليس شخصية رمادية تقبل التأويل. 

لقد كان نصّابًا دوليًا بكل المقاييس: خدع الخديوي سعيد وانتزع امتياز القناة بشروط مجحفة، ثم استباح دماء عشرات الآلاف من المصريين في أعمال السُخرة. وعندما نهض أحمد عرابي مدافعًا عن الوطن، تعهّد بأن تبقى القناة محايدة، لكنه فتحها للأساطيل البريطانية لتمرّ إلى قلب الدلتا، فكانت الخيانة أحد المداخل الكبرى للاحتلال. وحتى في أوروبا، حين تورّط في فضيحة قناة بنما، لم يُعرَف إلا كنموذج للنصب والاحتيال في القرن التاسع عشر.

ومن ثم، فإن الذين يطالبون اليوم بعودة تمثاله لا يعيدون رجلًا إلى منصة، بل يعيدون الاستعمار إلى الذاكرة الوطنية. يعيدون رواية حاولت مصر أن تطويها، لأن ثمنها كان دمًا واحتلالًا ونضالًا طويلًا. 

والخطر ليس في وجود تمثال أو غيابه، بل في أن تُقدَّم للأجيال القادمة خلاصةٌ معكوسة: أن المستعمر "صاحب فضل"، وأن المقاومة "مغامرة". وهنا تتحول القضية من نقاش حول البرونز إلى سؤال أعمق: أي مصر نريد أن نُسلّمها لوعي الأجيال؟ مصر التي قاومت العدوان وحمت قناة السويس بدماء أبنائها، أم مصر التي تُكرّم من خدعها وسرقها وخانها؟

إن معركة ديليسبس اليوم ليست معركة حول تمثال، بل معركة على الجغرافيا الرمزية لمصر: من يروي القصة؟ ومن يملك الحق في كتابة ذاكرة وطن قاوم ودفع ثمن حريته؟ من يقف مع منصة خالية تحرس الشرف الوطني بصمت، ومن يقف مع تمثال يريد إعادة المستعمر إلى قلب المدينة؟

لقد خرج الاحتلال من الأرض، لكنه يحاول أن يعود إلى الوجدان. وهذه هي أخطر أشكال الهزيمة: أن نقبل نحن بأن نضع رموزه على صدورنا.

وهكذا يصبح السؤال الأخير واضحًا، لا يحتمل الالتباس:هل تريد مصر أن تكون البلد الذي حمى قناة السويس بدماء أبنائه، أم البلد الذي يكرّم من خدعها وسرقها وخانها؟ 

بين هذين الخيارين لا تقف تماثيل، بل تقف هوية كاملة.
-----------------------
بقلم: محمد حماد

مقالات اخرى للكاتب

انتباه | محنة أن تكون زملكاويا