تعيش جمهورية الصين الشعبية واحدة من أكثر لحظاتها الاقتصادية حساسية منذ عقد كامل، مرحلة تختلط فيها إشارات التباطؤ بالمؤشرات الدافعة للنمو، ويجتمع فيها الضغط على الطلب المحلي مع صعود غير مسبوق في الصناعات المتقدمة والتصدير.
وبينما تتجه الأنظار عالميًا إلى ما إذا كانت الصين قادرة على الحفاظ على مكانتها كثاني أكبر اقتصاد في العالم، فإن الحقائق على الأرض، والأرقام الرسمية، والنماذج الحديثة للانفتاح خصوصًا في مقاطعة هاينان حيث تنطلق في 18 ديسمبر من هذا العام، منطقة التجارة الحرة بهاينان رسميًا وتشغيل الجمارك المستقلة على مستوى الجزيرة.
تريليون دولار فائض تجاري لأول مرة
في نوفمبر 2025، تجاوزت صادرات الصين التوقعات، مسجلة نموًا بنسبة 5.9% مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، وحققت الصين فائضًا تجاريًا بقيمة 111.68 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ يونيو.
ولأول مرة، يتجاوز الفائض التجاري السنوي للصين حاجز التريليون دولار.
وقد جاء هذا النمو مدفوعًا بارتفاع الشحنات إلى الأسواق غير الأمريكية، حيث كثفت الصين جهودها لتنويع أسواقها بسبب الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.
منذ فوز ترمب في الانتخابات الرئاسية، سعت الصين إلى توطيد علاقاتها التجارية مع جنوب شرق آسيا والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الاستفادة من حضور شركاتها العالمية لتأسيس مراكز إنتاج جديدة في أسواق منخفضة الرسوم الجمركية.
ورغم انخفاض الشحنات إلى الولايات المتحدة بنسبة 29% في نوفمبر، شهدت صادرات الصين إلى الاتحاد الأوروبي وأستراليا وجنوب شرق آسيا نموًا ملحوظًا.
واستمرارًا في سعيها لتعزيز الاقتصاد المحلي، تركز الصين على تقوية الطلب الداخلي من خلال اتخاذ خطوات لتوسيع السوق المحلية، وهو تحول ضروري للانتقال من الاعتماد على الصادرات إلى تعزيز النمو المحلي المستدام.
وفيما يخص القطاعات الصناعية، شهدت صادرات الصين من المعادن النادرة زيادة كبيرة بنسبة 26.5%، كما تحققت واردات فول الصويا من الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية مستويات غير مسبوقة.
مقاييس النمو والتحديات
ومع تزايد التبادلات الدولية بشكل أكبر، ستصبح الأجواء فوق هاينان أكثر ازدحامًا من أي وقت مضى.
المقدمة القوية لاقتصاد الصين في السنوات الأخيرة لا تقف عند حدود النمو الرقمي، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة هيكلة شاملة في قواعد الإنتاج والتجارة وسلاسل التوريد، بما يجعل المشهد الاقتصادي الصيني في 2024–2025 أكثر تعقيدًا من مجرد نسبة نمو للناتج المحلي.
فعلى الرغم من الضغوط الخارجية، والتباطؤ العقاري، وتراجع معدلات الاستثمار المحلي، فإن الصين لا تزال تمنح الاقتصاد العالمي إشارات بأن قدرتها على التكيّف والتجديد تتجاوز حدود التوقع، وأن مشروع التحديث الصناعي الذي تقوده بدأ ينتج ثمارًا واضحة، سواء في قطاع المعدات عالية التقنية، أو السيارات الكهربائية، أو الطاقة المتجددة، أو الصناعات المتقدمة التي تحولت اليوم إلى العمود الفقري للاقتصاد الصيني الجديد.
وتظهر بيانات عام 2024 أن الصين نجحت في تحقيق نمو للناتج المحلي بنسبة 5٪، ليبلغ إجمالي الناتج نحو 134.9 تريليون يوان، وهو ما يوازي تقريبًا 18.8 تريليون دولار.
وفي سنة كانت فيها أغلب الاقتصادات الكبرى تكافح ضد التضخم أو تعاني تباطؤًا حادًا، جاءت هذه النسبة لتؤكد قدرة الصين على الاستمرار في إدارة اقتصاد ضخم بمعدلات نمو مستقرة.
كما ارتفع الناتج الصناعي في العام نفسه بنسبة 5.8٪، بينما زادت مبيعات التجزئة — مؤشر استهلاك الأسر — بنسبة 3.5٪، وهو معدل يعكس نموًا حقيقيًا لكنه يظل أبطأ من وتيرة النمو الصناعي، ما يؤكد استمرار اعتماد الاقتصاد الصيني على قدراته الإنتاجية وسلاسل التصدير أكثر من اعتماده على الاستهلاك المحلي.
وفي 2025، وتحديدًا خلال أول ثلاثة أرباع العام (يناير–سبتمبر)، نما الاقتصاد الصيني بنسبة 5.2٪، ليبلغ إجمالي الناتج المحلي أكثر من 101.5 تريليون يوان، أي ما يعادل 14.3 تريليون دولار.
وسجل الربع الثالث وحده نموًا قدره 4.8٪، وهو أقل من الربع السابق لكنه لا يزال ضمن نطاق النمو الصحي مقارنة بالظروف الدولية.
وارتفع الإنتاج الصناعي في القطاعات المتقدمة خلال الفترة نفسها بنسبة لافتة: تصنيع المعدات قفز بنسبة 9.7٪، والتكنولوجيا العالية بنسبة 9.6٪، وهي نسب تكشف أن القطاعات التي تراهن عليها الصين بالفعل هي التي تقود النمو، وليس القطاعات التقليدية التي ارتبطت في السابق بنموذج التوسع العمراني والعقاري.
وفي المقابل، سجّل الاستثمار في الأصول الثابتة خلال الفترة نفسها تراجعًا بنحو 0.5٪، وهو مؤشر على أن استثمارات البنية التحتية والعقارات لم تستعد زخمها السابق، وأن القطاع العقاري لا يزال يعاني ضغوطًا مرتبطة بانخفاض الطلب وتراجع السيولة، وهو ما يجعل الحكومة الصينية مضطرة لتوجيه النمو إلى قطاعات التكنولوجيا والطاقة والصناعة المتقدمة لتعويض هذا النقص.
أما مبيعات التجزئة فقد ارتفعت بنسبة 4.5٪ في الأشهر التسعة الأولى من 2025، مسجلة تحسنًا مقارنة بعام 2024، لكنه ما يزال معدلًا حذرًا، يعكس عقلية المستهلك الصيني الذي أصبح أكثر تحفظًا بعد سنوات من الضغوط على الدخول.
وتكشف بيانات التجارة الخارجية عن جانب آخر شديد الأهمية في الأداء الاقتصادي للصين، ففي أول ثلاثة أرباع 2025 بلغ إجمالي التجارة (صادرات + واردات) نحو 33.6 تريليون يوان، بزيادة تقارب 4٪، ما يؤكد أن الصين لا تزال تحتفظ بدورها كأكبر قوة تصديرية في العالم، وأن التنافسية الصناعية لا تزال تتغلب على التوترات الجيوسياسية والتجارية.
كما يشير ارتفاع الدخل الفردي القابل للتصرف بنسبة 5.1٪ في 2025 إلى وجود تحسن واضح في مستوى معيشة الأفراد، وهي زيادة يمكن أن تساهم، مع مرور الوقت، في دعم الاستهلاك الداخلي إذا استقرت سوق العمل.
ورغم ذلك، يبقى معدل البطالة الحضري عند 5.2٪ في سبتمبر 2025 أحد المؤشرات التي تراقبها بكين بدقة، إذ تحاول الحكومة تجنب ارتفاعه بسبب تأثيره المباشر على الثقة الاستهلاكية.
لكن استقرار البطالة رغم التباطؤ العقاري يُظهر مرونة سوق العمل وقدرة الصين على استيعاب العمالة في الصناعات الجديدة والقطاعات التكنولوجية.
هاينان كمركز تجاري جديد
ولا يمكن فهم النموذج الصيني الجديد من دون التوقف عند النماذج الإقليمية التي أصبحت مختبرات للتجربة الاقتصادية، وعلى رأسها مقاطعة هاينان، ففي 18 ديسمبر، تفتتح الصين رسميًا نظام الجمارك الموحد في هاينان، وهو واحد من أهم التحولات في سياسة الانفتاح الصينية منذ تأسيس المناطق الاقتصادية الخاصة في الثمانينيات.
ويقول خبراء إن فتح الجمارك يعني ببساطة أن هاينان تُدار اليوم بوصفها منطقة تجارة حرة كاملة، تسمح بدخول وخروج السلع بلا قيود تقريبًا، وتقدم حوافز غير مسبوقة للشركات الأجنبية والمحلية.
وبدأت الشركات العالمية بالفعل في تحويل خطوط إنتاج وتجميع إلى هاينان، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والنقل والخدمات المتقدمة.
كما أصبحت هايكو نموذجًا لاقتصاد الخدمات الحديثة، بدءًا من السياحة الحرة وحتى صيانة الطائرات، وهو قطاع تضاعف حجمه خلال عام واحد بعد تدفق الشركات العالمية مستفيدة من الحرية الجمركية.
إلى جانب ذلك، يمثّل المعرض الدولي للاستيراد الذي انعقد 5 نوفمبر الماضي في شنغهاي واحدًا من أهم منصات الانفتاح التجاري في الصين والعالم.
المعرض الذي أصبح ملتقى سنويًا للدول والشركات العالمية، يعكس رغبة بكين الواضحة في تعزيز سياسة “الانفتاح المتوازن” من خلال توسيع الواردات، وليس فقط زيادة الصادرات.
ويُعد انعقاد المؤتمر مؤخرًا دليلاً جديدًا على قوة الطلب الصناعي والتكنولوجي في الصين، وعلى أن الأسواق الصينية ما تزال قادرة على جذب الشركات الأجنبية، رغم النقاش المتزايد في أوروبا وأمريكا حول “فك الارتباط” أو “تقليل الاعتماد على الصين”، بل إن أجنحة التكنولوجيا والسيارات والطاقة الجديدة في المعرض شهدت هذا العام أكبر مشاركة منذ تأسيسه، ما يؤكد أن الشركات العالمية لا تزال ترى في الصين سوقًا لا يمكن تجاوزه.
وتتوازى هذه المنصات الاقتصادية مع استمرار التحوّل الصناعي داخل الصين، حيث أصبحت مدن مثل ووشي وشنتشن وشنغهاي وكونمينغ مراكز متقدمة لصناعات التكنولوجيا الحيوية، والروبوتات، وتصنيع الرقاقات الإلكترونية، والطاقة المتجددة.
وتضخ الحكومة استثمارات ضخمة لتسريع تصنيع السيارات الكهربائية، وتشجيع الابتكار في البطاريات، وبناء معدات الطاقة المتجددة. بل وتشهد بعض قطاعات التكنولوجيا نموًا يفوق 30٪ سنويًا، وهي نسب تضع الصين في صدارة الثورة الصناعية الرابعة.
نمو صناعي رغم التباطؤ العقاري
ورغم كل هذه المؤشرات المشرقة، فإن التحديات لا تزال قائمة، فالقطاع العقاري لم يتعافَ بعد، وثقة المستهلكين تحتاج المزيد من الوقت كي تعود إلى مستوياتها الطبيعية، والاستثمارات الخاصة ما تزال حذرة، بينما تستمر التوترات التجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في إلقاء ظلالها على سلاسل التوريد.
ويري مراقبون أن قدرة الصين على امتصاص الصدمات، ونقل مركز الثقل الاقتصادي من العقارات إلى التكنولوجيا والصناعة المتقدمة، تُعد واحدة من أبرز نقاط القوة التي تمنحها هامش مناورة كبيرًا.
سيناريوهات مستقبلية
وبناء على هذه الأرقام، يشير مراقبون السيناريوهات المستقبلية المحتملة للاقتصاد الصيني.
السيناريو الأول يتجه نحو استمرار النمو المعتدل حول 5٪، مدفوعًا بالتكنولوجيا والتصدير والطاقة الجديدة، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا إذا ما استمرت بكين في إصلاح سوق العقارات وتنشيط الطلب المحلي تدريجيًا.
أما السيناريو الثاني فيتمثل في حدوث تباطؤ أكبر خلال 2026–2027، إذا تراجعت الاستثمارات أو إذا واجهت الصين صدمات جديدة في التجارة العالمية، وهو سيناريو حذر لكنه غير مستبعد.
بينما يقوم السيناريو الثالث على إمكانية انتقال النمو إلى مرحلة أعلى جودة، حيث تتوسع الصناعات المتقدمة لتشكل أكثر من نصف القيمة الصناعية للصين، ما يؤدي إلى نهضة تكنولوجية شبيهة بما حدث في كوريا الجنوبية خلال العقدين الماضيين.
وهناك سيناريو رابع أكثر طموحًا يعتمد على قدرة الصين على استقطاب مزيد من الشركات الأجنبية عبر مناطق التجارة الحرة مثل هاينان، وتحويلها إلى مركز عالمي للصناعات المتقدمة، مما يرفع النمو فوق التوقعات الحالية.
أما السيناريو الخامس فيرتبط بالاقتصاد الأخضر والتحول الطاقي، إذ تمتلك الصين القدرة على قيادة العالم في إنتاج البطاريات، والهيدروجين الأخضر، والطاقة الشمسية، ما قد يجعلها محورًا رئيسيًا في الاقتصاد العالمي منخفض الانبعاثات خلال العقد القادم.
وبين كل هذه المسارات، تظل الصين قادرة على المفاجأة، ليس فقط بالنمو العددي، ولكن بقدرتها على إعادة ابتكار ذاتها اقتصاديًا مرة بعد أخرى. فاقتصاد بحجم 18 تريليون دولار لا يتغير بسهولة، لكنه قادر على التحول عندما تصر القيادة المركزية على ذلك.
وها هي الصين اليوم رغم كل الضغوط تواصل تطوير نموذج اقتصادي جديد يقوم على التكنولوجيا، والطاقة، والصناعة المتقدمة، والانفتاح التجاري من خلال هاينان وشنغهاي وغيرها من المراكز الاقتصادية.
وهو ما يشير بوضوح إلى أن الصين تدخل بثبات مرحلة جديدة من النمو، قد تكون أبطأ من السابق، لكنها بالتأكيد أكثر استدامة، وأكثر ملاءمة لمستقبل الاقتصاد العالمي المتحوّل.





