- ليست جملة للهزار والضحك رد بها هيكل على فتحي غانم بسرعة بديهة معتادة منه، غانم كتب رواية بعد رحيل عبد الناصر بعنوان: "الرجل الذي فقد ظله" قاصدًا بها هيكل، فلما التقيا وقادهما حديثهما إلى الرواية، كرر غانم الجملة، فما كان من هيكل إلا أن قال له ببساطة: وأنت الرجل الذي فقد عقله. هيكل وغانم كبيران سيذكرهما التاريخ باهتمام شديد.. أما رجلنا الذي نتحدث عنه هنا، والذي فقد عقله فعلًا، وتعرفه مصر كلها وربما العالم العربي.. فسيذكره تاريخ من نوع آخر!
ليس موضوعًا - او رجلاً - هامشيًا للأسف! لا أعرفه، ولكني آعرف كل شيء عنه، منذ ان قرأت تقرير "الصلاحية" الشهير الذي بمقتضاه أخرجوه من وظيفته المرموقة، ومن السلك المحترم كله، وصولا إلى بذاءاته وهجومه على جميع المستضعفين الذين يفترسهم افتراس عزيز مقتدر، لايقدر أحد على منازلته في حلبته، وكأن الكل يخشاه، والسر في كونه يستطيع إيذاء كل من ينازله أو يقترب منه، سواء بالألفاظ أو بالمستندات و"السيديهات" التي يهدد بها الجميع، وحتى القانون الذي يعتبره لعبته وملعبه، لاينازله فيه أحد!
لسانه الفالت يهدد الجميع، وحتى أصدقاء الأمس هم أعداء اليوم.. كم كان حميمًا في سابق الأيام مع صديقه الشهير بـ "الإعلامي السعودي"، ثم أصبح يتحفه وأسرته بشتائم مما يصفه الفلاحين بقولهم "أعطاه من المنقي خيار". وكذلك كان حميما جدًا مع لسان حاله في فترات تصالح المصالح احمد موسي، ثم قلبت الحياة لصداقتهما ومصالحهما ظهر المِجّن.. حتى وزير الرياضة لم يوفر الخلاف معه، ولا الصدام.. بل لقد عايره بأنه كان يعمل معه أو تحت إمرته ويتقاضى مرتبه من النادي الذي كان يرأسه!
الرجل عنده مشكلة هائلة أمام الكاميرات.. وكأنه يجد نفسه أمامها وهو يخوض قتالا حتى الموت.. على طريقة أيهما اسرع في التصويب! تصويب الشتائم والسخائم والسخرية والإهانة لأي شخص يحضر في اللحظة التي يخوض فيها النزال مع الكاميرات.. يحضرني هنا مشهد حبس الأنفاس الشهير، في ختام فيلم الطيب والشرس والقبيح، حينما يتحلق ثلاثي يمتلك مهارة السرعة والدقة في التصويب في دائرة نزال مريعة، حتمًا ستنتهي بالقتل، تضم لى مارفن الشرير الأسطوري وإيلي والاش القبيح الأسطوري أيضا، والطيب.. الماهر.. السريع.. ذو العقل البديع كيلينت ايستوود، الذي يقضي عليهما في النزال، بعد حسابات دقيقة لفترة حبس الأنفاس ونظرات العيون وحركات تجاعيد الوجوه وزّم الشفاه التي أبدع في تصويرها المخرج العبقري سرجيو ليون.
هذا الرجل المخيف.. المرعب.. كلما واجه الكاميرات أصبحنا في مأزق شديد.. فلا بد أن يعتدي على شخص ما، أو يهين إنسانة ما.. إعلامية، محامية، ادارية، مندوبة إعلانات، حتى الخطيب وميدو و وشيكا والغندور.. والوحيد تقريبًا الذي نجا هو وزير الداخلية!
آخر الإهانات المصحوبة بغضب شديد، حدثت مؤخرًا أثناء عقده مؤتمرًا صحفيًا يريد به التغطية على فشله في الانتخابات. ارتكبت إحدى المراسلات خطأ خلال المؤتمر حينما أرادت الحصول على مايك القناة التي تعمل بها وتغادر! هاج وماج وارغى وأزبد وقال لها بعضا مما يحتفظ به في قاموسه (محدش يغادر إلا بإذني.. إيه القرف ده… ملكيش مايك عندي.. ماتفتحيش بقك تاني!)
شاهد المصريون - وفي القلب منهم الإعلاميون والصحفيون - هذا الفاصل العجيب من إهانة زميلة ولم يتحرك أحد ليقوم بواجب الدفاع عنها، بل ورد إهانته لكل من استمروا في سماعه وهو ينكل بالجميع، من دون أن يتاح لمن ينكل بهم حق الرد! لم يجرؤ أحد على المغادرة معها أو رد الإهانة عنها، وكان أحري بالجميع إذا كانوا يحترمون مهنتهم وأنفسهم أن يتركوا له القاعة خاوية تماما على عروشها!
من أين يستمد هذا الرجل صندوق شتائمه؟ ولماذا يسمح له بإخراج هذه القم…؟ من الذي يريد له أن يستمر في إطلاق نيران لسانه على الجميع فيسمعه الغفير والوزير.. والشريفة والعاهرة والرجال وأنصاف الرجال والمسؤولون والعاديون من الناس؟
الآن ماهو موقف الذين تنتمي إليهم مهنة هذه السيدة التي أهانها الرجل؟ إذا كانت إعلامية فلها نقابة تحت التأسيس، وعندنا هيئة وطنية للإعلام تستطيع أن تصل اليها، فالفضيحة تذاع الآن كمقاطع ريلز، تفضح ما جرى وما تعرضت له من إهانات!
بعض الصحفيين الذين يقبلون على الرجل كلما ذهب إلى عزاء أو فرح أو افتتح مقلة لب يفضلون أن "ينكشوه "بسؤال ساخر، عن ناديه، وعن مجلس إدارته وخصومه فيه، وعن اللاعبين وغير ذلك، على أساس أن طريقته الفجة الخارجة على القانون تستهوي بعض الناس وترفه عنهم، ويتقبلون منه إهاناته أو سخرياته بحسب طريقته في الرد عليهم. ولأننا في زمن رؤساء تحرير لايدركون المسؤولية الحقيقية الملقاة على عاتقهم في احترام مصداقية صحفهم ويفضلونها هادئة وفاقدة للدسم، فإنهم لا يعبأون إذا ما أهين زميلهم وهو يحاول جلب خبر! المهم عندهم ما الذي حصلوا عليه أثناء الواقعة من النميمة العلنية والشتيمة على الهواء وهل تصلح مانشيت، أو فيديو ينشره الموقع يجلب آلاف المشاهدات؟! كرامة الصحفي لاتشغل بالهم، فهؤلاء يعتبرون تقريبًا بلا كرامة وهم يتقاضون مكافآت تافهه ويلهثون يوميًا من أجل لقمة العيش!
ومع أن رئيس التحرير الحقيقي لديه من الوسائل مايردع بها من يستحقون الردع، ممن يهينون زملاءه من المحررين.. ردعًا يجعل من يقدم على هذه الفعلة مسخرة الناس.. ويستطيع أن يجعل مثل هذا الشخص وأمثاله أمثولة و عبرة لمن يعتبر، لكننا لسنا في هذا الزمن حتمًا!
عندما أمعن في البذاءة وزير داخليه سابق يدعى زكي بدر وراح يتهجم على صحفيي المعارضة بالذات، تصدت نقابة الصحفيين له، وأجبرته على الحضور إلى النقابة للاعتذار.
ابتكرت الوفد في عهد مصطفي شردي طريقة لمعاقبة هذا الوزير الذي كان يشتم الوفد الحزب ورئيسه والصحيفة ورئيس تحريرها بآقذع الشتائم، بالامتناع عن نشر صورة الفوتوغرافية، ونشر عفريته سوداء له بدلا منها!
هذا الأمر تكرر مع الوزير مجدي عبد الغفار، الذي أمر جحافل الأمن باقتحام نقابة الصحفيين لاعتقال زميلين لجآ إلى النقابة للاحتماء بها، بعد الأمر باعتقالهما، وكانت أزمة شديدة في عهد النقيب يحيي قلاش، الذي خاض صراعا مهما من اجل حماية الزميلين والدفاع عن النقابة من الاقتحام! وقرر مجلس النقابة بالإجماع إصدار قرار ملزم لجميع الصحف يقضي بنشر صورة الوزير عفريته سوداء (النيجاتيف) وعدم نشر تصريحات باسم الوزير مجدي عبد الغفار! وهناك العديد من الوقائع تتعلق باهانة وزراء للصحفيين، امكن في أزمنة مختلفة ردعهم وانتهى الأمر باعتذارهم.
شيء من هذا القبيل لابد أن نلجأ له الآن بعد أن تكررت اهانات الصحفيين - غير المهنيين في الحقيقة - ومع أنهم كذلك فلا يجوز إهانتهم مطلقًا فهم بشر أولاً وآخرًا ، وإذا كانت إهانتهم نتيجة لضعف خبراتهم أو موهبتهم أو ضعف موقفهم في صحفهم، ومُسْتذَلين بسبب لقمة العيش فعلى النقابة التدخل، لتأهيلهم من جديد، خاصة صحفيي الجنازات والأفراح والمناسبات العامة، بحيث يذودون عن كرامتهم المهدرة.
العدوان على الصحفيين لامبرر له، ولابد من التصدي له، والتواصل مع رؤساء التحرير لاختيار افضل العناصر لتغطية هذه المناسبات التي أظهرت أسوأ ما في صحافتنا من تدني ومن ضعف مهنية ومن قلة ثقافة وخبرة ولباقة. ومع أنني اعترف بأن هذه العيوب موجودة، لكن لايمكن إلا أن نطلب رتق الثوب بكل خروقاته الجسيمة، لكي لا يولغ المجتمع في عرض مهنة الصحافة وينتهك شرفها علنا وتحت سمع وبصر الجميع.. بما يهدر أي قيمة للمهنة ولأي مطالبة بتحسين أوضاع الصحفيين المتردية، التي سبق أن قلت في مقالي قبل يومين أننا على وشك أن نقول 'عشانا عليك يارب".. وهذا ربما ما يشجع الرجل الذي فقد عقله على البذاءة باستمرار، وعلى شراء البعض ليكونوا إمعات في حضرته، ويتناسون إهاناته مقابل الفتات الذي يلقيه لهم عطفًا وإحسانًا .. وخسة وانعدام ضمير!
---------------------------------
بقلم: محمود الشربيني






