06 - 12 - 2025

الأمن القومي الإستراتيجي الأمريكي من عهد بوش إلي عهد ترامب

الأمن القومي الإستراتيجي الأمريكي من عهد بوش إلي عهد ترامب

لابد في البداية أن أتقدم بالشكر للإعلامي المتميز حافظ الميرازي الذي لفت الأنظار إلي صدور التقرير الإستراتيجي الأمريكي الجديد الخاص بولاية ترامب الثانية، والحقيقة أنني كنت أنتظر صدوره علي عادتي علي مر السنين، حيث يمثل هذا التقرير في الغالب الرؤية الإستراتيجية لكل إدارة، وبطبيعة الحال، وحيث تمثل سياسات الولايات المتحدة الأمريكية أهمية كبري لكل مهتم بالشئون السياسية، وخاصة للعاملين في الحقل الدبلوماسي، فإن متابعة ودراسة تلك التقارير الدورية أصبحت طقساً من الطقوس المرعية، والتي كتبت عنها جميعاً سواء في مقالات منشورة، أو من خلال عملي كدبلوماسي.

لقد بدأ الإلتزام بكتابة هذه التقارير بشكل قانوني، منذ صدور قانون جولدواتر – نيكولز لعام 1986، بحيث أصبحت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ملزمة بنشر وثيقة استراتيجية الأمن القومي NSS بشكل دوري، لتوضيح المصالح الوطنية وتقييم التهديدات وتحديد أدوات القوة المطلوبة لتعزيز أولويات واشنطن العالمية.

سوف أحاول في هذا المقال، وبشكل مختصر تتبع التطور التاريخي للاستراتيجية منذ نشأتها القانونية حتى آخر تقرير أصدرته إدارة ترامب الحالية قبل أيام، وقد حرصت علي إيراد تحليل التحولات الموضوعية عبر الإدارات المختلفة، ونظراً لأهمية الدور الذي لعبه فكر كيسنجر بشكل عام  على التفكير الإستراتيجي الأمريكي، فقد آثرت أن أشير إلي ذلك دون تفصيل كبير، حيث أنني تناولت الفكر الكيسنجري في أكثر من مقالة سابقة .

وقد رجوت أيضاً من خلال قراءة مقارنة لأبرز  هذه التقارير الاستراتيجية، محاولة تحديد التحولات العقائدية الرئيسية، بما في ذلك الانتقال من الردع في الحرب الباردة إلى التفاؤل الذي ساد بعد انتهائها، ثم هيمنة موضوع مكافحة الإرهاب، وأخيراً عودة أجواء الحرب الباردة في تنافس مستجد بين القوى الكبرى.

وسوف أحاول أيضاً مراجعة سريعة لأهم الانتقادات الموجهة لهذه الإستراتيجية وللإرث الكيسنجري، والإشارة إلي ما قد يكون إطاراً جديداً لإستراتيجية هجينة تتناسب مع تحديات القرن الواحد والعشرين.

وكما قدمنا، تعد استراتيجية الأمن القومي إحدى أهم الأدوات التي تعلن من خلالها الولايات المتحدة رؤيتها للعالم وكيفية حماية مصالحها. فبعد قانون 1986، أصبحت تلك الوثيقة  الاستراتيجية إطاراً رسمياً يعرض تقييمات كل رئيس جديد للتحديات الدولية وأولويات السياسة الخارجية والدفاعية.

وعلى الرغم من استمرار ما يمكن اعتباره هيكلاً عاماً، فقد اختلف مضمون التقارير باختلاف الإدارات السياسية، وبحسب رؤيتها للنظام الدولي ودور الولايات المتحدة فيه..

ولقد كانت  أول استراتيجية رسمية عام 1987 في سياق الحرب الباردة، حيث ركّزت  استراتيجية إدارة ريجان على الردع والقوة العسكرية ومواجهة الاتحاد السوفييتي، وقد قيل أن هذه الإستراتيجية عجلت بتفكيك الإتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية ونهاية الحرب الباردة .

وفي عام 1991، قدم جورج بوش الأب أول استراتيجية لما بعد الحرب الباردة، عكست إلي حد كبير تفاؤلاً بانفراد أميركا بقيادة النظام العالمي استخدمته تلك الإدارة في بناء تحالف دولي لتحرير الكويت .

أما إدارة كلينتون (1994–1995) فتبنت عقيدة “الإشتباك والتوسيع”، مركّزة على نشر الديمقراطية والتدخلات الإنسانية.

وفي 2002، صاغت إدارة جورج بوش الابن “مبدأ بوش”، الذي هيمن عليه مفهوم الحرب الوقائية ( التي أطلقت عليها في مقال هام إسم “ الحرب الإجهاضية “)، ومكافحة الإرهاب.

وفي عهد أوباما (2010–2015) برزت الدبلوماسية متعددة الأطراف، وتراجع الإهتمام بالوجود العسكري، والتركيز علي قضايا المناخ والتكنولوجيا.

أما استراتيجية ترامب (2017) في فترة رئاسته الأولي، فقد أعادت تعريف التهديدات عبر إطار “المنافسة بين القوى العظمى”، خصوصاً تجاه الصين وروسيا.

وقد قدمت استراتيجية بايدن (2022) رؤية أكثر تكاملاً تربط بين التنافس الجيوسياسي والترابط الاقتصادي وتحالفات الديمقراطيات.

والملاحظ أن  معظم هذه الوثائق تشترك  في تحديد المصالح والأهداف، لكنها تختلف جذرياً في تصورها للتهديدات ودور القوة العسكرية، فبينما تبنت إدارة ريجان نهج الردع في مواجهة السوفييت، ركزت إدارة بوش الأب على فكرة الأمن الجماعي، في حين عززت إدارة كلينتون القيم الليبرالية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان .

وتعد استراتيجية 2002 من ناحية أخري  تحوّلاً جذرياً نحو العمل الوقائي، بينما ركزت استراتيجية أوباما على الدبلوماسية والتهديدات العابرة للحدود، وأعادت استراتيجية ترامب في فترة رئاسته الأولي المنافسة الجيوسياسية، بينما حاول بايدن من جهته الجمع بين  هذين البعدين في إطار واحد.

ورغم أن هنري كيسنجر لم يكتب بنفسه أي وثيقة من هذا النوع، إذ ترك منصبه قبل صدور القانون الذي يلزم كل إدارة بإصداره، إلا أن تأثيره الفكري والمؤسسي استمر مؤثراً بوضوح، فقد رسخ الأسس الواقعية القائمة على توازن القوى وإدارة العلاقات بين القوى الكبرى، وهو ما يظهر خاصة في تلك  الاستراتيجيات التي تعطي الأولوية لإدارة التنافس الدولي، كما أسهم في بناء الهيكل المؤسسي لمجلس الأمن القومي، الذي لا تزال آلياته هي الإطار الذي تُصاغ عبره الوثائق الحديثة، وقد استمرّ  حذره من المثالية ومن “السياسة الأخلاقية” مؤثراً في الجدل الأميركي حول حدود القوة.

وقد كانت لي العديد من الإنتقادات للفكر الكيسنجري بشكل عام ، وبأثره المستمر حتي الآن في سياسات أمريكا في الشرق الأوسط، وتتراوح تلك الإنتقادات بين أخلاقية وسياسية ومؤسسية، فلا جدال في أن الواقعية التي أسس لها كيسنجر تُهمّش حقوق الإنسان، كما أن آثاره الفكرية التي امتدّت إلي بعض الوثائق - خاصة 2002 - التي أخطأت في تشخيص التهديدات، ويمكن القول أن “مبدأ كيسنجر“، إذا جاز استخدام هذا المصطلح ، أدّي إلي أن  النظام الإستراتيجي الأميركي يبالغ في الإحتفاء بإستخدام  القوة العسكرية، بغض النظر عن وجود فجوة بين الأهداف المعلنة والموارد المتاحة، وأضيف بإختصار أن ما روج له من نهج الواقعية الكلاسيكية يعجز  عن التعامل مع تهديدات جديدة كالأمن السيبراني والمناخ والأوبئة.

ولكن يمكن مع بعض التحفظ اعتبار أن بعض المبادئ الكيسنجرية صحيحة من وجهة نظر المصالح العالمية للإستراتيجية الأمريكية مثلاً في  إدارة المنافسة مع الصين ووضع التحالفات في قلب السياسة الخارجية.

ومع ذلك، يبقي أن التهديدات العابرة للحدود تتطلب أدوات تتجاوز الواقعية التقليدية، بما في ذلك التعاون متعدد الأطراف، وحوكمة التكنولوجيا، وتعزيز مرونة المجتمعات.

وقد تسمح الظروف بإستعراض شامل للتقرير الأخير لإدارة ترامب الحالية، ولكن لا أستطيع أن أخفي إنطباعي الأولي المباشر علي الجزء الوارد فيه حول الشرق الأوسط ، فهو إجمالاً لا يقدم جديداً ، وليس فيه مثلاً مبدأ مبتكر ، أو طرح معمق لجذور المشاكل المعاصرة في المنطقة، وربما يعود ذلك إلي أن هذا هو "الموقع" الحالي للشرق الأوسط في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، لكن هذا موضوع آخر علي أي حال.

وفي الختام، كنت أرجو كذلك أن تسمح ظروفي الواقعية أن أطرح بهذه المناسبة ما قد يصح إعتباره "إستراتيجية مصرية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية الحالة"، ولكنني أكتفي هنا بالإشارة ولو من بعيد إلي بعض الخطوط التي لا مناص من بحثها، كما يلي:

. أهمية الدمج الذكي المرن بين الواقعية علي ضوء المعطيات (التي يجب عرضها بأمانة وتفصيل) وبين تحديد الإطار التعددي الذي يخدم المصالح الوطنية، وكذلك ضرورات مواءمة الأهداف مع الموارد المتاحة “وليس المحتملة“، مع إعطاء الأولوية للأمن التكنولوجي والمرونة في ملف القضايا المناخية، وأهمية  تعزيز الشرعية الديمقراطية، مع الإهتمام بإجراء  مراجعات دورية بين كل استراتيجية وأخري.
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

عن مقالات