جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين 4 ديسمبر 2025 لتفتح فصلًا جديدًا في العلاقات بين بكين وباريس، وتؤكد في الوقت نفسه حجم التحول العميق الذي يشهده النظام الدولي.
فمنذ اللحظة الأولى لوصول الرئيس الفرنسي إلى قاعة الشعب الكبرى في بكين، بدا واضحًا أن الزيارة تحمل وزنًا يتجاوز البروتوكول التقليدي، وأن الصين ترغب في تعزيز موقعها بوصفها شريكًا لا غنى عنه لأوروبا، وقوة فاعلة تمتلك رؤية واضحة لما يجب أن يكون عليه العالم في المرحلة المقبلة.
وجاء المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيس شي جينبينغ والرئيس ماكرون ليكشف عمق التفاهم بين البلدين، وليرسل رسائل مباشرة إلى المجتمع الدولي.
فقد أكد الرئيس شي أن الصين وفرنسا ستعملان معاً لإيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية في أقرب وقت، معلنًا تقديم مساعدات بقيمة مئة مليون دولار لدعم أبناء غزة، وتخفيف أزمتهم الإنسانية، والمساهمة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب. هذا الإعلان عكس حجم الدور الذي باتت بكين تضطلع به في الشرق الأوسط، ودخولها الواسع في الملفات الإنسانية والسياسية التي تمس استقرار المنطقة.
لم يكن ما قاله الرئيس شي مجرد إعلان تضامني، بل خطوة محسوبة تؤكد أن الصين أصبحت لاعبًا محوريًا في القضايا الدولية، خصوصًا في مناطق لطالما ظل الغرب يحتكر الحديث عنها.
وبحضور ماكرون، أرادت بكين أن تُظهر بأن جهودها ليست موجهة في اتجاه واحد، وأنها مستعدة للعمل مع الشركاء الأوروبيين لدفع مسارات الحلول التي تستعيد الاستقرار في الشرق الأوسط، وتفتح الطريق أمام مسار سياسي جديد يعكس تطلعات الشعوب قبل حسابات القوى الكبرى.
في المقابل، بدا الرئيس الفرنسي مدركًا لثقل الصين في المشهد الدولي، وقد أكد خلال لقائه مع الرئيس شي ضرورة تجاوز الخلافات والعمل من أجل الصالح العام، مشيرًا بوضوح إلى أن فرنسا تريد علاقة أكثر استقرارًا مع بكين، وأن العالم لم يعد يحتمل حالة الاستقطاب الحادة بين القوى الكبرى. كان ماكرون يدرك أن الصين اليوم تمتلك القدرة على التأثير في مسار الأزمات الكبرى، وفي مقدّمها الحرب في أوكرانيا، وأن أي ترتيبات مستقبلية لوقف إطلاق النار لا يمكن أن تتجاهل الدور الصيني.
ولم يتردد الرئيس الفرنسي في مطالبة الصين باستخدام تأثيرها للمساعدة في التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب، خصوصًا وأن بكين تجمعها علاقات وثيقة بموسكو، وتحتفظ بموقف ثابت يدعو إلى الحوار والحلول السياسية واحترام سيادة الدول.
وأظهرت المحادثات أن فرنسا تتعامل مع الصين باعتبارها شريكًا ضروريًا لإعادة التوازن في أوروبا، وليس منافسًا يجب احتواؤه.
وهذه النقطة بالتحديد عكست الفارق بين المقاربة الفرنسية والموقف الأوروبي التقليدي الذي لا يزال محمّلًا بالتحفظات والضغوط الأميركية.
الاقتصاد بدوره كان حاضرًا بقوة في محادثات الجانبين. فأوروبا اليوم تواجه واقعًا اقتصاديًا معقدًا، وعجزًا تجاريًا كبيرًا مع الصين، غير أن باريس تدرك أن الحل ليس في تقليص التعاون، بل في إعادة هيكلته على أسس أكثر توازناً.
أما الصين، فقد بدت حريصة على التأكيد بأن أبوابها مفتوحة أمام الاستثمار الأوروبي، وأن علاقتها مع فرنسا تقوم على المصالح المتبادلة، وليس على المنافسة أو الصراع. وحرص الرئيس شي على تذكير ماكرون بأن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين هي أحد أهم أعمدة العلاقات بين الصين وأوروبا، وأن استقرار هذه العلاقة شرط أساسي لاستقرار المشهد الدولي نفسه.
ولم تخلُ الزيارة من الرمزية التي تُجيد بكين توظيفها. ففي ختام جولة ماكرون، أعلنت الصين استعدادها لإرسال دببة باندا جديدة إلى فرنسا، في إشارة ودّية تؤكد مستوى الثقة بين البلدين، وتعكس اهتمام الصين بالبعد الثقافي والشعبي في علاقاتها الخارجية.
وقد جاءت هذه الخطوة بالتزامن مع زيارة الرئيس الفرنسي لمدينة تشنغدو، ما أضفى على الزيارة بُعدًا إنسانيًا مكملًا للأبعاد السياسية والاقتصادية.
ويقرأ المراقبون زيارة ماكرون باعتبارها اعترافًا أوروبيًا بأن الصين أصبحت ركنًا رئيسيًا في أي معادلة دولية، وأن تجاهل ثقلها لم يعد ممكنًا.
كما أن بكين من جانبها أظهرت أنها تريد علاقة مستقرة مع أوروبا، وأن باريس تحديدًا تمثل بوابة مهمة لتوازن العلاقات مع القارة بأكملها.
وفي ظل التحولات العالمية المتسارعة، ومع تصاعد التوتر في ملفات عدة، برزت الصين كقوة عقلانية تقدم حلولًا وتنادي بالاستقرار، في مقابل سياسات غربية غالبًا ما تدفع نحو التصعيد أو الإبقاء على الأزمات مفتوحة.
في نهاية الزيارة، خرج الجانبان برسالة واضحة بأن الصين وفرنسا ليستا مجرد شريكين اقتصاديين، بل طرفان قادران على العمل معًا لتخفيف أزمات العالم، وإرساء قواعد جديدة للتعاون الدولي، وبناء نموذج من العلاقات الدولية يقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وبدا جليًا أن بكين صاحبة اليد العليا في صياغة هذا الإطار الجديد، وأن دورها الدولي يتوسع بثقة، فيما تتحرك فرنسا بحثًا عن توازن يعكس إدراكها للواقع العالمي الجديد.





