توم ليبمان، المراسل الدبلوماسي السابق ورئيس مكتب الشرق الأوسط في صحيفة واشنطن بوست، هو مؤلف الكتاب الصادر عام 2007 “داخل السراب: الشراكة الهشّة بين أميركا والسعودية”. وتشمل مؤلفاته الأخرى: "فهم الإسلام: مقدمة إلى العالم الإسلامي" (في طبعته الثالثة)، و“مصر بعد ناصر: السادات، السلام، وسراب الازدهار”، و“الإسلام: السياسة والدين في العالم الإسلامي”، و"مادلين أولبرايت والدبلوماسية الأميركية الجديدة". يعيش في واشنطن العاصمة.
كتب ما يلي تعليقاً علي " وعد روزفلت " للملك عبد العزيز آل سعود حين التقاه في منطقة البحيرات المرة في قناة السويس:
"أنه بعد وفاة الرئيس روزفلت، التقى خلفه هاري ترومان بوزراء الولايات المتحدة في مصر ولبنان وسوريا والسعودية، وبالقنصل العام في فلسطين المنتدبة، وعندما أُبُلِغ باتفاق سلفه روزفلت مع الملك السعودي حول مسألة فلسطين والوعد الذي قطعه الرئيس للملك، فإن ترومان قال: "أنا آسف يا سادة، لكن عليّ أن أستجيب لمئات الآلاف الذين يتطلعون إلى نجاح الصهيونية؛ فليس لدي مئات الآلاف من العرب بين أصوات الناخبين الذين يصوتون لي" ، والمصدر الوحيد لهذا التقييم الصريح - والكثير الاستشهاد به - هو كتاب العقيد ويليام إيدي الصادر عام 1954 “روزفلت يلتقي ابن سعود”،(وهو الكتاب الذي استندت إليه أجزاء كبيرة من هذه الحلقات) ومن المريب أن هذا الكتاب، نفدت نسخه منذ زمن بعيد .
ومن ناحية أخري - يقول ليبمان - أن الملك السعودي، عندما سُئل عن إعطاء فلسطين لليهود المضطهدين، أجاب بأن الألمان - وليس الفلسطينيين- هم من اضطهدوهم، وأنه يجب تخصيص جزء من ألمانيا - وليس فلسطين - لإقامة وطن يهودي. وهنا تكمن مفارقة قاسية: فالحقيقة أن جزءاً من ألمانياالذي تمت مصادرته بالفعل من الألمان عام 1945 على يد قوات الاحتلال الأميركية ، تم إعطاؤه لليهود، ليس بهدف إقامة دولة يهودية على الأراضي الألمانية، بل - وبطلب من القادة الصهاينة - صودرت أفضل الأراضي الزراعية من الألمان لتعليم اليهود الزراعة حتى يتمكنوا، عند وصولهم إلى فلسطين، من فلاحة الأراضي التي ستُنتزع من الفلسطينيين.
وهذا الأمر الذي لا يعرفه الكثيرون، إضافة إلى دور المنظمات الصهيونية في الضغط على الناجين من المحرقة للذهاب إلى فلسطين، أورده يوسف جرودزينسكي، أستاذ علم النفس في جامعة تل أبيب، في كتابه “ظلّ المحرقة”.
وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يوثّق "مايكل فيشبخ" في كتابه “سجلات المصادرة: أملاك اللاجئين الفلسطينيين والصراع العربي– الإسرائيلي” ما حدث في فلسطين من أواخر عام 1947 حتى عام 1948. فقد تمّ اقتلاع أكثر من 726.000 فلسطيني من بيوتهم - أي أكثر من نصف الشعب الفلسطيني آنذاك، وليس مفاجئاً، وبالنظر لكتاب جرودزينسكي، أن معظم اللاجئين الفلسطينيين كانوا من الفلاحين الذين اضطروا لترك ممتلكاتهم: الأرض، والماشية، والمحاصيل. وبالاعتماد إلى حد كبير على السجلات الأرشيفية، يكشف بحث فيشبخ لأول مرة كيف انتقلت الأملاك، وما قيمتها، وكيف استُخدمت من قبل الدولة اليهودية الوليدة.
وفي يوليو 2000، وبعد 55 عاماً من لقاء روزفلت وابن سعود، اجتمع الرئيس الأميركي بيل كلينتون برئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في كامب ديفيد أملاً في التوصل إلى تسوية تفاوضية لأطول احتلال عسكري في القرن العشرين. كان عرفات متردداً في الحضور خشية أن يُجبر على قبول شروط غير مقبولة، لكن كلينتون وعده بأنه لن يُحمَّل المسؤولية إذا فشلت المفاوضات. وعندما فشلت، نُقض الوعد مرة أخرى، وأُلقي اللوم كله على عرفات.
تُروى القصة الحقيقية لما حدث في كتاب كلايتون إي. سوشر “الحقيقة حول كامب ديفيد”، وهو كتاب وصفه المحلل ويليام كوانت بأنه “بحث موثّق بعناية ويتحدى التفسيرات التقليدية لقمة كامب ديفيد.” ، مؤكداً - علي غير الشائع حتي بين بعض النخب العربية المطبعة - حقيقة أن العرض المقدم لعرفات لم يكن “سخياً” - كما قيل - على الإطلاق، وهو ما تم تناوله في عدد ديسمبر 2000 من مجلة Link بعنوان “عرض غير كريم إطلاقاً” لجيف هالبر، مؤسس اللجنة الإسرائيلية لمناهضة هدم المنازل. وقد كان أحد أكثر أعداد هذه المجلة شعبية، حتى نفدت نسخه كلها. لكن منظمة هالبر أعادت إصدار العدد في كتيّب مُحدَّث وموسّع بعنوان “عوائق السلام”، ويحتوي على 15 خريطة ملوّنة كاملة الصفحة.
والحقيقة التي تبدو ماثلة أنه إذا عُرض على الفلسطينيين في أي مفاوضات مستقبلية ما يشبه عرض كامب ديفيد - وربما أقل - فإن “الدولة” التي سيُضغط عليهم لقبولها ستتكوّن مرة أخرى من مناطق مجزأة، لا يملكون السيطرة على مجالها الجوي، أو خزاناتها الجوفية، أو حدودها، مجرد كانتونات تتعرض للتآكل المستمر بسبب سياسات الإستيطان والترانسفير.
لقد أشار توم ليبمان في مقاله إلى أن ابن سعود أحبّ روزفلت بصدق لأنه شعر أن الرئيس الأميركي احترمه واحترم ثقافته. وفي السنوات التي تلت لقاءهما التاريخي، ذهب مئات الآلاف من الأميركيين إلى السعودية، كثير منهم عمل هناك لفترات طويلة. ونشأت صداقات سعودية – أميركية، واستمرت هذه الروابط حتى بعد عودة الأميركيين إلى بلادهم.
وفي الزيارة الأخيرة التي قام بها سمو الأمير ابن سلمان ولي عهد المملكة السعودية في الوقت الحالي ( نوفمبر ٢٠٢٥ ) ، كانت فيما ظهر خلالها من استقبال غير عادي، وفوق بروتوكولي، خلال اللقاء الذي جمعه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكأنها صدي قريب لنفس عناصر لقاء الملك المؤسس ابن سعود للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وخاصة الثروة التي حبا بها الله المملكة الصحراوية ، مع فارق أنها كانت في زمن روزفلت وتشرشل تتمثل في "سائل" تعتمد عليه حضارة الغرب بشكل كبير، بينما في العصر الحالي هي ثروة طائلة، في حد ذاتها نتاج عوائد متراكمة لذلك السائل، يسيل لعاب ترامب عليه، وعنصر أخر يمتد من زمن روزفلت وهو ضمان تأمين المملكة، إلا أن الغائب حالياً، رغم آنه كان حاضراً بقوة في لقاء البحيرات المرة قبل ثمانين عاماً، فهو القضية الفلسطينية التي لم يكن حضورها في لقاء واشنطن الأخير سوي ظل باهت، ومع ذلك لم يستطع الأمير الشاب سوي التأكيد علي أن التطبيع يرتبط بقيام "دولة فلسطين" ، ربما كذكري ضبابية لموقف عظيم اتخذه جد ذلك الأمير.
وختاماً، هل يمكن أن يتم إستخراج "وعد روزفلت" من تحت رمال الإهمال والنسيان، وتذكير ترامب والأمريكيين به ، بدلاً من "خطة ترامب" العقيمة التي تقدم ما تبقي من فلسطين علي صحن مزين بورود وعود بلاستيكية، وبدلاً عما يقال حول "السلام الإبراهامي" الذي يكرس لإستمرار العدوان الصهيوني في الإستيطان بالأراضي العربية كما توقع الملك عبد العزيز آل سعود؟.
من الصحيح أن الزمن الماضي لا يعود ، وأن من العبث استدعاء الحكمة بأثر رجعي، ولكن ربما التذكير ببعض الآثار علي الرمال، قد يتيح إيجاد "أدلاء" جدد لهذا العصر ، فلقد شهدت منطقة الشرق الأوسط قبل ثمانين عاماً ، ملكاً ثاقب الرؤية امتلك الشرف والكرامة والجرأة علي أن يقف بكل قوة ضد أكاذيب العصابة الصهيونية، ولولا تكالب صهاينة الغرب وعلي رآسهم تشرشل، وتخاذل ساسة العرب وبعض نخبهم المعطوبة، لأمكن لرؤية هذا الملك العظيم أن تنقذ المنطقة من تلك الدماء التي سالت، والأرواح التي أزهقت من الجميع: "مسلمين ومسيحيين ويهود".
------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
حلقات "السعودية والصهيونية"






