04 - 12 - 2025

"البلطجي" يقيم دولة العدل في "ليالي ألف ليلة"

تحتل رواية ليالي ألف ليلة موقعًا فريدًا في مسار نجيب محفوظ الروائي؛ فهي عمله الوحيد الذي استلهمه مباشرة من عالم الحكايات الشعبية الأشهر. وأكثر رواياته غرابةً وعجائبيةً، عجائبية ذات جذور شعبية أعاد محفوظ تشكيلها بما يخدم رؤيته الفنية.  يحضر فيها الجن والشياطين والملائكة، تنزاح فيها الحدود بين العوالم، يتجاورون فيها  في فضاءات حلمية برزخيّة تتداخل فيها الأسطورة بالحقيقة والخيال بالواقع.

يستعير محفوظ من ألف ليلة وليلة عوالمها وشخصياتها الشهيرة، شهريار، شهرزاد، دنيازاد، معروف الإسكافي، الحمالين، السقاة… وغيرها، يطوع هذا الخيال العجائبي الشعبي ليجعله إطارًا فنيًا يخدم قضيته الأثيرة التي عالجها مرارًا في أعمال مثل أولاد حارتنا والحرافيش ورحلة ابن فطومة. القضية المتعلقة الحكم والسلطة والبحث عن النموذج العادل، القادر على تحقيق حياة كريمة للإنسان،  تيمة مركزية ظل محفوظ يلاحقها بصيغ مختلفة، قبل أن يعيد صياغتها هنا داخل عالم أسطوري شعبي تتشابك  فيه الحكاية الشعبية مع التأمل الفلسفي.

ركز محفوظ في «أولاد حارتنا»  على سؤال قدرة الأديان على تحقيق العدالة وإقامة نظام أخلاقي يصلح العالم. أما في «ليالي ألف ليلة» فيحول اهتمامه إلى آليات تحقيق هذه العدالة، هل تتحقق بالقوة والعنف، أم بالتغير السلمي للسلطة؟  يرصد فيها التناقض الحاد بين الشعارات التي ترفعها الدولة علنًا وما تمارسه سرًا ما ينتج مجتمعًا مشوهًا وعديم الجدوى. يعبر عن هذا الازدواج بوضوح: «عجيبة هذه السلطنة بناسها وعفاريتها ترفع شعار الله وتغوص في الدنس» (ص38).

في هذا السياق يظهر الدين أداة صراع على السلطة، تلقي الشرطة القبض على الناس بتهم جاهزة مثل الانضمام إلى الخوارج أو الشيعة، في استثمار سياسي للدين يعيد إنتاج القمع ولا يهدف إلى تحقيق العدالة وإنما تكريس الظلم.

تبدأ الرواية من حيث تنتهي ليالي ألف ليلة وليلة بقرار شهريار التخلي عن عادة قتل العذارى ظلمًا، بعدما قتل كثير من الصالحين الذين عارضوا جنونه، وترك الذين ينافقونه.  ومن هذه الافتتاحية الكاشفة يتبدى المجتمع الذي يحكمه شهريار، سلطة رأسها ملك محتجب عن العالم، يعيش في عزلة لا يرى فيها شعبه ولا يسمع نبض المدينة، إلا على سبيل التسلية عندما ينزل من قصره متنكرًا ليطوف في شوارع المدينة كما كان حال هارون الرشيد في الليالي الأصلية.

 فيما تدار شؤون الناس عبر حاكم، ورئيس شرطة، وكاتم سر، وقضاة يتصلون بالمجتمع بصورة مباشرة. هذا البناء السلطوي الهرمي يذكر على نحو لافت بشخصية الجبلاوي في أولاد حارتنا، قوة عليا حاضرة وغائبة في آن، تمارس السلطة من وراء ستار، فيما يتولى أعوانها مواجهة الناس وتوجيه حياتهم اليومية. وهو ما يفعله شهريار فمع كل أزمة تحدث يقوم بإقالة الحاكم وأعوانه وتعيين آخرين مكانهم للقضاء على الفتنة والجرائم التي تجري في المجتمع رغبة في تحقيق الاستقرار.

يمثل عالم الرواية مجتمعًا شعبيًا رمزيًا يبحث فيه محفوظ عن الوسيلة الأنجع للقضاء على الظلم والنظام السياسي الأفضل للحكم. في بدايات الأحداث يعتمد التغيير على العنف عبر قتل الحكام أو رؤساء الشرطة الفاسدين، في إشارة إلى التصور الأولي بأن إزالة الظلم لا تتم إلا بقطع رأس السلطة. هذا التصور يتطور تدريجيًا، إذ ينتقل البطل من فكرة العقاب  إلى التفكير في التغير السلمي ما دام الإصلاح ممكنًا. فيعفو المنتقم بعدما عرى السلطة الحاكمة معتقدًا أنهم طالما أدركوا ضعفهم وانفضاح سرهم سيستحون من الظلم، فالحياء من أهم الصفات التي يجب أن تكون في الحكام «ويل للناس من حاكمٍ مجنونٍ لا حياء له» وضمانة لتحقيق العدل.

تستمر الرواية في البحث عن نموذج الحكم العادل إلى أن تصل في نهايتها إلى الحل الأمثل، اختيار الحاكم من أبناء الشعب. ويظهر ذلك في شخصية معروف الإسكافي الذي أحبه الناس لعدله وقربه منهم، فاختاره السلطان ليكون حاكمًا، فيتحول الحكم إلى تجربة ديمقراطية رضي عنها الشعب

– ألا ترى يا مولاي أن حكم الحي أصبح بيد نفرٍ لا خبرة لهم؟

– دعنا نقدم تجربة جديدة (ص246).

ليبقى السؤال المتعلق بمصير السلطان شهريار، ذلك الحاكم القاتل الذي نجح على رغم ماضيه الدموي أن يحقق قدرا من العدل في آخر أيامه، لكنه ما زال مثقلًا بوزر دماء الأبرياء. هنا يدفع نجيب محفوظ شخصيته إلى موقع تحمل المسئولية السياسية والأخلاقية، فيجعل شهريار يتنحى عن الحكم بإرادته الحرة، مؤكدًا أن العدالة لا تكتمل دون الاعتراف بالخطأ وتحمل تبعاته.

تأتي هذه الرؤية مغايرة تمامًا لنموذج الجبلاوي في أولاد حارتنا، فهناك تظل السلطة العليا محتجبة، تستمر عبر اختيار نوابها، لا ينتهي حضورها إلا بالموت. أما في ليالي ألف ليلة، شهريار يقدم قرارًا شجاعًا نادرًا في عالم الحكام بالتخلي عن الحكم والسعي في طريق الخلاص الإنساني.

– شهريار السلطان يجب أن يذهب بما فقد من أهليه، أما الإنسان فعليه أن يجد خلاصه.

– شهرزاد: إنك تعرض المدينة لأهوال.

– شهريار: بل إني أفتح لها باب النقاء، وأهيم على وجهي باحثًا عن خلاصي. (ص289)

 لا يغفل محفوظ في الراوية إبراز الدور الروحي للدين في تهذيب الإنسان وإصلاح العالم الداخلي، يتجسد ذلك في شخصية الشيخ عبدالله البلخي، الصوفي رمانة الميزان في عالم موبوء بالفساد والاضطراب. فكلما ملأ الشك القلوب، أعاد البلخي للكون يقينه وانضباطه، فحضوره نوعًا من الاستقرار الروحي الذي يمنع انهيار العالم في العبث

وهذه الشخصية ليست غريبة عن عالم محفوظ، ولها نظائر في عدد من أعماله،  النموذج الصوفي الذي ينفذ إلى الداخل ويهذب الإنسان من جذوره ولا يهتم بالشعارات والقشور. 

يرسم محفوظ في ليالي ألف ليلة مجموعة من الشخصيات ذات حمولة فلسفية ورمزية تكشف أعماق النفس البشرية وتقلباتها. وتأتي شخصية جمصة البلطجي واحدة من أبرز هذه النماذج،  صورة حية لـتنازع الخير والشر داخل الإنسان. يبدأ جمصة تلميذًا للشيخ البلخي، يسلك طريق الصلاح، ثم يتركه للعمل في الشرطة فيتدرج في المناصب حتى يصبح مسئولًا عنها، وهناك يستفحل ظلمه وفساده إلى أن يلقى مصرعه. غير أن العالم العجائبي للرواية يمنحه حياة جديدة بفضل الجن، فينذر نفسه لخدمة الخير، ينتقم من الحكام الفاسدين وأعوانهم بالقتل أولًا، قبل أن يتراجع عن العنف ويختار طريق العفو والمسامحة.

ومع اعتلاء معروف الإسكافي الحكم، يختار جمصة ليكون رئيسًا للشرطة، يعود إليها بروح جديدة، هي الأقدر على مواجهة الشر من الداخل لأنه خبر سبله ودهاليزه وعرف مكائده قبل أن يتطهر منه. فجمصة   إنسان سقط، ثم نهض، وتحول سقوطه ذاته إلى معرفة تستخدم في نصرة الخير وإفساد مخططات الشر.

ويقدم في شخصية فاضل صنعان نموذجًا للشاب الذي يبدو فاضلًا في الظاهر، لكن هذا الفضل كما يشير اسمه نفسه فضل مصنوع.  معروف بين الناس بالخير ومساعدة الضعفاء وكراهية الظلم،  هذا السلوك لم يكن نابعًا من عمق أخلاقي حقيقي، وإنما  نتاج ظرف لم يتح له فيه ممارسة القوة. وما إن امتلك القدرة على الإفلات من العقاب،  ظهر معدنه الحقيقي، منحه الجن طاقية الإخفاء، فانطلق يسرق ويقتل ويعبث في مصائر الناس، كاشفًا بذلك أن الاختبار الحقيقي للأخلاق هو القدرة على الظلم، وأن الفضيلة التي لا تمر بتجربة السلطة ربما لا تكون سوى قناع هش ينهار عند أول امتحان

ومن الشخصيات التي يرسمها محفوظ بفرادة لافتة سحلول، الرجل الذي يعيش بين الناس متخفيًا في هيئة بشرية، بينما هو في الحقيقة ملك الموت، في دلالة واضحة على حضور القدر بين البشر.

وفي الأخير، هناك رمزية السندباد الذي طاف البلاد وعاد بالحكمة والسكينة، ثم يقرر أن يعود إلى الترحال من جديد، مؤكدًا على حتمية الاستكشاف وألا يتوقف الإنسان عن البحث والسفر ويظل في حالة سعي دائم نحو المعرفة والتجدد.
----------------------------
بقلم: د. عبدالكريم الحجراوي

مقالات اخرى للكاتب