أراد مكتب الخدمات الإستراتيجية الأمريكي (OSS) أن يعرف ما الذي ناقشه تشرشل في القاهرة. ففي تقرير بالغ السرية بتاريخ 21 فبراير، أبلغ مكتب الشرق الأوسط التابع له واشنطن بأنه علم أنّه في سلسلة اجتماعات في مصر بين تشرشل وإيدن، وكل من الملك فاروق ملك مصر، والرئيس القوّاتلي رئيس سوريا، وابن سعود، «تركّزت المناقشات على مسألة تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية مستقلة على الساحل، وإلى دولة عربية يتم “دمجها” مع سورية الكبرى. ويُقال إن الخطة، بما في ذلك إنشاء سورية الكبرى، قد قُبلت من جميع الأطراف في الاجتماعات، لكن تشرشل أوضح أن الخطة يجب أن تحظى بموافقة البرلمان البريطاني قبل أن يمكن تنفيذها. وبموجب هذه الخطة، يُقال إن لبنان وُعد بحكم ذاتي كامل، ولكن بوصفه جزءًا من سورية الكبرى. (أوراق مكتب الخدمات الإستراتيجية (OSS): أرشيف وزارة الخارجية الأميركية ) .
كان القوميون العرب يعتبرون «سوريا الكبرى» شاملةً لسوريا ولبنان وفلسطين. ولم يكن الهدف هو عرض الأمر على البرلمان البريطاني، كما ظنّ الـOSS، بل على مؤتمر سلام لما بعد الحرب في الشرق الأوسط، حيث كان تشرشل يأمل أن يضمن قيام دولة يهودية مستقلة في فلسطين. وكان تشرشل يدرك تمامًا صعوبة مهمته. ففي 25 مارس عُرضت عليه رسالة من الأمير عبد الله حاكم شرق الأردن يحذّره بشكل قاطع: «إن سكان العالم العربي في غليان بشأن مستقبل فلسطين». وشرح عبد الله أحد أسباب ذلك بقوله إن «العرب يعتقدون في الوقت الحاضر أن اليهود يريدون فلسطين فقط لتكون وسيلة لهيمنتهم المستقبلية على العالم العربي كله اقتصاديًا وكذلك سياسيًا ".(رسالة بتاريخ 10 مارس 1945: أوراق رئيس الوزراء 4/52/2).
بعد ستة أسابيع عُرض على تشرشل خطاب طويل وحازم بالقدر نفسه من ابن سعود، يؤكد فيه أن قيام دولة يهودية في فلسطين «سيكون ضربة قاتلة للعرب وتهديدًا دائمًا للسلام». وأصرّ الملك على أن «طموحات اليهود لا تقتصر على فلسطين وحدها. فالتجهيزات التي أعدّوها تُظهر أنهم يعتزمون اتخاذ عمل عدائي ضد البلدان العربية المجاورة». كان اليهود، في فلسطين، يستعدّون «لإقامة نوع من النازية - الفاشية على مرأى من الديمقراطيات وفي وسط البلدان العربية…».
وتضمّن جزء من رسالة الملك شكوى تاريخية ، حيث روي "أن يشوع التوراتي استولي على أرض الكنعانيين - «وهم قبيلة عربية» - «بقساوة وبربرية شديدتين». وكان العرب في فلسطين منذ 3,500 سنة قبل الميلاد. وقد حكموا البلاد «وحدهم أو مع الأتراك» لمدة 1,300 سنة. أما «حكم اليهود المتقطع فلم يتجاوز 380 سنة مضطربة ومتفرقة»، وانتهى عام 332 قبل الميلاد. وعلى مدى 2,200 سنة «لم يكن هناك سوى قليل من اليهود ولم يكن لهم أي تأثير… كانوا مجرد غرباء جاؤوا إلى فلسطين على فترات، ثم طُردوا منها قبل أكثر من ألفي عام». ( رسالة بلا تاريخ، عُرضت على تشرشل في 2 مايو 1945:أوراق رئيس الوزراء، 4/52/2 ).
كان تشرشل يعرف هذه الحجج جيدًا. فقد سمعها لأول مرة، ومعها صيغ مختلفة، عندما زار القدس قبل ذلك بأربعةٍ وعشرين عامًا ، وسعى يومها إلى دحضها. وسمع ابن سعود يكررها في الفيوم ، ومع ذلك، كان مقتنعًا بأن إنشاء دولة يهودية في فلسطين سيكون إحدى مهماته وتحدياته الرئيسية بعد الحرب، وأن لديه الأساس التاريخي، إضافة إلى العزم والمهارة، لتحقيق قيام تلك الدولة.
لكن خطط تشرشل لم تُطرح للنقاش قط، لا في البرلمان البريطاني كما تخيّل الـOSS، ولا في مؤتمر سلام لما بعد الحرب في الشرق الأوسط كما كان يتصوّر تشرشل، ذلك المؤتمر الذي كان يأمل فيه أن يُقنع ابن سعود بدعم دولة يهودية مستقلة ذات سيادة كجزء من اتحاد عربي يكون ابن سعود على رأسه.
ورداً على شكاوى ابن سعود، كتب تشرشل: «إن أملي الصادق أن تسفر مداولاتنا عن نتيجة عادلة لحقوق ومصالح جميع الأطراف المعنيّة». (برقية بتاريخ 21 مايو 1945: أوراق وزارة الخارجية، 954/15).
في غضون خمسة أشهر بعد الاجتماعات التي جرت على متن كوينسي وفي الفيوم، هُزم حزب المحافظين في الانتخابات العامة البريطانية، ووجد رئيس الوزراء الجديد كليمنت أتلي نفسه مسؤولًا عن بريطانيا – وعن فلسطين.
أما تشرشل، الذي أصبح زعيمًا للمعارضة، فلم يكن بوسعه إلا أن يشاهد، بإحباط وعدم تصديق وغضب، الفصول الأخيرة من دراما الانتداب وهي تتكشف أمامه.
وهكذا ومهما بلغت دقّة توقّع الملك ابن سعود آنذاك، فقد كان مقدّراً له أن يكون ذا أثر محدود في تطوّرات فلسطين، لأن روزفلت – بدوره - توفي بعد خمسة أشهر فقط من اللقاء ، كما أن تشرشل كذلك قد خسر الانتخابات. وهكذا تُرك لآخرين غيرهما أن يقرّروا مصير فلسطين.
وإذا كان للأمر من نتيجة، فإن مناشدات الملك لروزفلت في هذا الشأن جاءت بنتائج سلبية بالنسبة له، إذ إن تعليقات الرئيس اللاحقة حول كمّ ما تعلّمه من الملك دفعت الصهاينة الأميركيين النافذين إلى مضاعفة جهودهم لإخفاء "وعد روزفلت الذي قدمه للملك عبد العزيز بعدم دعم الهجرة الصهيونية إلي فلسطين" ، بل والإجتهاد لدق الأسافين بين أي تقارب عربي / أمريكي ، وهو مجهود سيستمر بكل الوسائل حتي وقتنا هذا .
والحقيقة أنه لا يمكن القول بأن المذكرة المشتركة لمقابلة الملك مع روزفلت، ولا رواية إيدي لعام 1954 بعنوان "F.D.R. Meets Ibn Saud"، تحتوي بشكل واضح أي اتفاقات أو التزامات محددة بشكل قانوني أو تعاقدي من جانب الولايات المتحدة أو السعودية، ومع ذلك كان للأمسية التي قضياها معًا تأثير بعيد المدى، مع ملاحظة أنه لم يتبق سوي رواية الحضور من الأمريكيين الذين شهدوا اللقاء، ومن ناحية أخري لا يبدو أن السجلات السعودية كانت متطورة بالشكل الذي يحفظ وثائٍق علي هذا القدر من الأهمية، أو حتي هيئة دبلوماسية ذات تنظيم جيد، تتابع نتائج اللقاء وتبني عليها، ورغم مرور السنوات، ظلت جولات التفاوض العربية مع الأطراف الأخرى ذات الصلة بقضية الشرق الأوسط ، رواية مبتورة ، تروي في أغلبها من طرف واحد، بلا سوابق أو ذاكرة مؤسسية، حتي في أكثر الدول العربية تقدماً ، حيث أن رأس الدولة يفضل أن يكون وحده في اللقاءات والمفاوضات ، وإذا استعان بأحد ، فأنه يختار علي الأغلب الأعم التشاور مع جهات خارجية يطمئن إليها !! .
في تقدير الكولونيل إيدي، الذي كان يعرف العرب على الأرجح أكثر من أي أميركي آخر في جيله: "إنّ حارس الأماكن المقدسة في الإسلام، وأقرب ما يكون إلى خليفة الخلفاء، حامي العقيدة الإسلامية والمدينتين المقدستين لثلاثمائة مليون إنسان، قد وطّد بنجاح أواصر الصداقة مع رئيس دولة غربية عظيمة ومسيحية وإن هذا اللقاء يمثّل الذروة في التحالف الإسلامي مع الغرب"، كما كتب.
وأضاف إيدي أن شعوب الشرق الأدنى "كانت تأمل وتتطلع منذ زمن طويل إلى التعامل المباشر مع الولايات المتحدة من دون أي تدخّل من طرف ثالث، وإن العادات الماضية التي جعلتنا ننظر إلى شمال إفريقيا والشرق الأدنى باعتبارهما مناطق محفوظة لأوروبا، قد حُطِّمت بضربة واحدة حين التقى السيد روزفلت الملوك الثلاثة ( فاروق ، وعبد العزيز ، وهيلاسلاسي ) في قناة السويس عام 1945" .
وقد ظهرت نتائج عملية مباشرة أيضاً، بدأت بعد أسبوعين حين أعلن الملك عبد العزيز الحرب على دول المحور.. فقد كان روزفلت وتشرشل قد أبلغاه أن ذلك هو ثمن قبول بلاده في منظمة الأمم المتحدة الجديدة التي كانت قيد التشكيل، غير أن القرار لم يكن سهلاً على الملك. وبحسب جون فيلبي، مستشاره المقرّب منذ زمن طويل، فإن "ابن سعود كان ينفر من عدم اللياقة، بل من السخافة، في إعلان الحرب على قوى كانت قد هُزمت بالفعل، ولم يكن لبلاده أي خلاف معها. لكنه في النهاية رضخ للضغط الدبلوماسي لأصدقائه، فانضمّت المملكة العربية السعودية إلى صفوف الدول المتحاربة بالاسم إن لم يكن بالفعل".
وخلال السنة التالية تقريباً، منح الملك الإذن لشركة أرامكو ببناء خط أنابيب للتصدير من الظهران إلى ساحل البحر المتوسط لتسريع إيصال النفط إلى الأسواق الأوروبية.
وافق الملك على الترتيب الذي سُمِح بموجبه لسلاح الجو الأميركي بتشغيل قاعدة الظهران الجوية التي بدأ الأميركيون بناءها خلال الحرب، وقَبِل بوجود فريق عسكري أميركي مكلّف بتدريب الشباب السعوديين على تشغيل المطار وصيانته. وبمجرد أن صادق الكونغرس على ذلك عام 1949، وافق الملك على برنامج تدريب عسكري أميركي كامل. وبعد أن تغلّب على شكوكه القديمة تجاه الأجانب، منح شركة "ترانس وورلد إيرلاينز" إذن الهبوط في الظهران في رحلاتها من القاهرة إلى بومباي.
ورغم أن روزفلت توفي بعد الاجتماع بفترة قصيرة، فقد استمرّ النهج الذي رسمه من صداقة ومساعدة للمملكة تحت إدارة ترومان. ففي عام 1946 منح بنك التصدير والاستيراد الأميركي المملكة قرضاً بقيمة 10 ملايين دولار لمشاريع الأشغال العامة ومشروعات المياه. وأرسلت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية فريقاً للبحث عن المياه والموارد المعدنية. وتمت ترقية البعثة الدبلوماسية الأميركية في جدة إلى سفارة كاملة. وبذلك، ترسّخت الشراكة الاستراتيجية والاقتصادية التي ستربط الولايات المتحدة بالمملكة العربية السعودية لعقود لاحقة وازدهرت بعد اللقاء التاريخي بين قادة البلدين.
أبلغ روزفلت كبار مستشاريه بعد الاجتماع بأن العرب واليهود يسيرون نحو «مسار تصادمي» يقود إلى حرب في فلسطين، وأنه يخطط للقاء قادة الكونغرس في واشنطن لطرح سياسة جديدة تحول دون ذلك. لكنه لم ينجح قبل وفاته بعد شهرين. ومع ذلك، فإن الانطباع الإيجابي العميق الذي تركه لدى ملك السعودية خفف الأضرار عندما اندلعت تلك الحرب عام 1948.
فبرغم غضبه من ترومان، لم يُلغِ الملك امتياز أرامكو، ولم ينهِ اتفاقية القاعدة الجوية الأميركية، ولم يتخذ أي خطوة للانتقام من الولايات المتحدة. فقد ألقى بثقله إلى جانبها تحت تأثير روزفلت، وبقي على ذلك النهج..
وكما قال أغلب المعلقين ، لقد زحفت الولايات المتحدة الأمريكية منذ ذلك الحين علي الشرق الأوسط ، وهي تنتزع المواقع الواحد تلو الآخر من " الحليفة " العنيدة بريطانيا التي عكست كل وثائقها علي حجم الخسارة التي استشعروها عندما أصبحت السعودية في الحضن الأمريكي تماماً.
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق







