ليلى مناضلة بحرينية شاركت في ثورة ظفار بقيادة الجبهة الشعبية إبان الاستعمار البريطاني.
لا أذكر أين ومتى ألتقيت ليلى فخرو، لكن صورتها محفورة في الذاكرة منذ المراهقة ولو أنني لم أعش المراهقة..
كانت السياسية شغلي الشاغل منذ الحادية عشرة من عمري، وانضممت إلى أول جمعية نسائية في المحرق أوال، التي أسستها ليلى، وأصبحتُ عضوة مراقبة لا يحق لي الترشيح ولا الانتخاب لصغر سني، ثم صرتُ عضوة في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين بالداخل، وكنت لا أتردد في الانضمام إلى الفدائيين لتحرير فلسطين.
وكانت القراءة هي المحفز الأول، قبل أن أعرف ليلى، لأن القراءة تعطي المرء الوعي، وتعطي المرأة القدرة على تحمل المصاعب والمسؤوليات، وليلى كانت المرأة الملهمة الذكية الواعية التي اختارت طريقاً لم يختره غيرها من قبل.. كنتُ أقرأ عن البرجوازية والنضال ضد الاستعمار والإمبريالية، ولاحظت أن أغلب المفكرين كانوا من الطبقة البرجوازية.
وكانت ليلى بالنسبة لي تمثل النموذج المقاوم المتمرد الذي يرفض الظلم والعبودية..
ليلى مناضلة جريئة آمنت بالثورة والعلم والتغيير.
أعتقد أن ليلى نظرت إلى المرأة كونها إنسانة يجب أن يتم التعامل معها شريكاً فاعلاً وندّاً مكملاً للرجل، وأثرّت بفعلها ذاك في تاريخ المرأة البحرينية..
لم تضع ليلى الرجل في خانة الأعداء بل شريكاً مكملاً لها، وكان عدوها الأول الظلم والجهل والفقر.
إن كل مناضل حقيقي أصيل يصبو إلى إصلاح وتغيير مجتمعه إلى الأفضل. وليلى كانت مناضلة حقيقية أصيلة،
ليلى لم تكن نسوية وأنا مثلها، ليلى تكره الظلم الواقع على الرجل والمرأة، وعلى كل فرد في المجتمع، وترنو إلى العدل والمساواة..
كنت أرى الظلم الواقع على الرجل في العمل وفي الحياة وأرى الظلم مضاعفا على المرأة وفعلاً المرأة عبدة العبد.
ليلى إمرأة حساسة واعية، اجتمعت فيها نظافة القلب والعقل معاً وتشكّل وعيها على هذا الأساس..
إن غالبية أفراد أسرة فخرو توجههم وطني عروبي. لكن أن تُقدم إمرأة في هذه العائلة وفي ذلك الزمن على كسر التابو والمحظور، وأي محظور؟
أن تهرب لا من أجل حبيب ولا من أجل هدف شخصي، بل من أجل هدف وطني نبيل..
من أجل مصلحة الشعب والوطن، من أجل التغيير والثورة، فهذا هو الأمر العجيب الغريب في مجتمعاتنا آنذاك وحتى اللحظة.. ليلى سبقت زمانها، تترك العز والجاه لتذهب بإرادتها وقناعتها إلى الفقر والجوع والعذاب، ولماذا ؟
من أجل نصرة الحق والوقوف مع الثورة ضد الظلم والطغيان.
أن تترك فراشها الوثير وبيتها الكبير وخيرها الوفير لتذهب بإرادتها إلى التغيير..
هذا هو المفصل
هذا هو المصير..
سمعتُ عن ليلى وكنت ربما في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمري، وكنت آنذاك قد حددت انتماءاتي السياسية والاجتماعية كلها، بفضل القراءة أولاً، ففي التاسعة من عمري بدأت بقراءة الكتب الفكرية والروايات العالمية والعربية، ثم بفضل الواقع الاجتماعي الثوري آنذاك، وهناك عوامل كثيرة ساهمت في ذلك الواقع، منها:
١- نكبة فلسطين ٤٨ ثم الهزيمة ٦٧.
٢- انتشار التعليم النظامي.
٣- ظهور وانتشار التيار القومي العروبي في العراق وسوريا ومصر ولبنان.
٤- أثر وتأثير هذه العواصم في التعليم الجامعي على طلبة البحرين والخليج.
٥- أثر وتأثير الاتحاد الوطني لطلبة البحرين.
٦- ظهور الفكر الثوري اليساري بمختلف توجهاته وانتشاره بعد الهزيمة عام ٦٧.
٧- الوضع الاقتصادي، فعلى الرغم من اكتشاف النفط في الثلاثينات، إلا أنه لم يظهر أثره على معيشة المواطنين بشكل مباشر إلا في الخمسينات، وظهر أثره أكثر في الطفرة النفطية في بداية الثمانينات.
ألتقيت بليلى بعد أن عادت من المنفى في ٩٥، وحدثت لقاءات عدة بيننا منذ ذلك العام وحتى رحيلها في ٢٠٠٦.
زرتها في البيت أكثر من مرة والتقيت بوالدتها الشبيهة لها في الرقة والقوة، وبالطبع كنت أعرف زوجها عبيدلي العبيدلي وأختها بثينة وزوج أختها أحمد العبيدلي وأخيها د حسن فخرو.
في فترة ظفار بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، كانت السرية شديدة والكتمان قوي من قبل أسرتها، فلا أحد يعلم بانضمام ليلى وأختها إلى الجبهة، لأسباب سياسية وأمنية واجتماعية.
لكن ما إن تسرب الخبر حتى صار الحذر والكتمان أشد، لأن الجبهة كانت محظورة في البحرين وفي الخليج العربي كله، لكن بعد أن مدّ السلطان قابوس يده للثوار ليشمل العفو جميع الثوار، ووضع الثوار في مناصب الدولة، قلت نسبة القمع تدريجياً، وقلت معها نسبة السرية والحذر، واستطاع أهلها التواصل معها أكثر .
ليلى ولدت في ٤٥، وعندما ذهبت إلى ظفار كانت في عزّ شبابها وردة متفتحة في عام ٧٠، وليلى رقيقة جداً وقوية جداً أيضاً، وقد بقيت في عُمان فترة قصيرة نسبياً، وبعدها في ٧٢ ذهبت إلى عدن، بسبب مرضها، ومن اليمن إلى العراق ثم إلى لبنان ثم إلى قبرص، وفي كل مرحلة ومكان تترك أثراً جميلاً.
- في البحرين أسست جمعية أوال قبل أن تلتحق بالثورة في ظفار.
-في ظفار أسست ليلى مدارس الثورة، وعندما ألتحقت أختها بثينة وزوجها بالثورة، جاء أحمد ليكمل المسيرة وأحدث نقلة نوعية في مدارس الثورة، لتصبح حقاً مدارس تعتمد المناهج الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة، أحمد العبيدلي له دور كبير في مأسسة التعليم.
- في لبنان التحقت ليلى بالجامعة الأمريكية وكانت من المتفوقات المميزات، وكان لها دوراً كبيراً في رابطة طلبة البحرين.
- في قبرص أسست ليلى مع زوجها عبيدلي، مؤسسة دلمون للنشر،
وعندما رجعت البحرين أسست مع زوجها شركة النديم للمعلومات التقنية، وترأست جمعية نساء الأعمال في ٢٠٠٤.
وعندما عادت التقيت بها.. بهرني بريق عينيها والذكاء المتوقد فيهما، وأعجبني ذلك الإصرار الكامن والتمرد المتحفز، وشعرت آنذاك إنني أشبهها في بعض ملامحها وشخصيتها، وفعلاً شعرنا بالتناغم الروحي فيما بيننا، لكن ليلى عندما عادت كان المرض قد هيمن على جسدها النحيل، كانت تعاني من مشاكل في الرئة وتعاني من ضيق في التنفس.
لكن بقي بريق التحدي والإصرار والتمرد في عينيها الجميلتين.
كان الإعلام البحريني خاصة والخليجي عامة يهيمن عليه الاستعمار البريطاني، حتى الاستقلال في ١٤ أغسطس ٧١، واستمرت هذه الهيمنة من خلف الكواليس حتى الثمانينيات، كان هندرسون في البحرين هو الآمر الناهي في الكثير من القرارات السياسية، لذلك كان توجيه الجهات الرسمية بتفادي طرح كل ما يتعلق بالحركات الوطنية في وزارت الدولة وخاصة في التربية والإعلام، وكان دور الداخلية وأجهزة الأمن ضرب هذه الحركات وعناصرها بيد من حديد، لذلك تم تغييب سيرة ليلى من الإعلام والتربية.
ولم يكن يهمّ ليلى الشهرة والأضواء.
كان الوطن يسكن ليلى، ومن شدة حبها للوطن قدمت التضحيات الجمة فالنظام شيء والوطن شيء آخر . الوطنية والانتماء للوطن لا يعني أبدًا الموالاة للنظام القائم، إذا كان لا يخدم الوطن والشعب، أما إذا كان النظام فعلاً يحقق العدالة ويخدم الشعب والبلاد آنذاك يمكن أن نذكر محاسن النظام والدولة.
وعلى أي إنسان أن يضع دوماً حاجزاً بينه وبين النظام، لكي تكون لديه عين ناقدة بحبّ، ويعرف أن يفرق بين الصواب والخطأ، وكيف يقيس الإيجابيات والسلبيات، وكيف يؤثر ويقدّم المصلحة العامة على المصالح الشخصية.
ليلى باختصار هي الرقة والقوة معاً، الحرية والمسئولية معاً، التمرد والالتزام معاً.
يرحمها الله ويسكنها فسيح جناته.
----------------------------
بقلم: د. أنيسة فخرو
* سفيرة السلام والنوايا الحسنة
المنظمة الاوروبية للتنمية والسلام






