إذا كان هناك من تعلقوا بوعد بلفور الشهير، فإنه كانت هناك ستارة متعمدة من الإخفاء علي وعد آخر قطعه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أمام الملك عبد العزيز آل سعود، واختفي في أضابير التاريخ والمبادلات الدبلوماسية فيما بعد .
فلقد قال الرئيس روزفلت بشكل قاطع "بأنه يرغب في طمأنة جلالته بأنه لن يفعل شيئًا لمساعدة اليهود ضد العرب ولن يتخذ أي خطوة عدائية تجاه الشعب العربي"..
لقد كتب تشارلز إي. بوهلن، الدبلوماسي الأمريكي البارز وعضو الوفد الرسمي لروزفلت، في مذكراته أن الملك أشار أيضًا إلى نقطة أخرى حول فلسطين لم تُذكر في رواية إيدي أو في المذكرة المشتركة. قال بوهلن في كتابه "شاهد على التاريخ": إن ابن سعود ألقي محاضرة طويلة حول الموقف الأساسي للعرب تجاه اليهود. وأنكر أن يكون هناك أي صراع سابق بين الفرعين من العرق السامي في الشرق الأوسط، وأن ما غير الصورة برمتها هو الهجرة من أوروبا الشرقية لأشخاص كانوا تقنيًا وثقافيًا على مستوى أعلى من العرب. ونتيجة لذلك، قال الملك ابن سعود، أن العرب واجهوا صعوبة أكبر في البقاء اقتصاديًا. وأضاف "أن كون هؤلاء الأوروبيين النشيطين يهودًا لم يكن سبب المشكلة، بل كانت مهاراتهم وثقافتهم المتفوقة هي السبب".
وقد ذكر مسؤولون أمريكيون آخرون كانوا يرافقون روزفلت في مذكراتهم المختلفة أن الرئيس بدا في البداية غير مدرك لجمود موقف الملك المعارض لمزيد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأعاد طرح الموضوع عدة مرات، فتلقى نفس الرد السلبي. ثم طرح الرئيس فكرة قال إنه سمعها من تشرشل — وهي إعادة توطين اليهود في ليبيا، التي كانت أكبر بكثير من فلسطين وقليلة السكان، وقد رفض عبد العزيز هذا الاقتراح أيضًا، قائلاً إنه سيكون من الظلم على المسلمين في شمال إفريقيا.
وذكرت المذكرة المشتركة: «صرح جلالته أن أمل العرب قائم على كلمة شرف الحلفاء وعلى حب الولايات المتحدة المعروف للعدالة، وعلى توقع أن تدعمهم الولايات المتحدة». ردًا على ذلك، أعطى روزفلت الملك "الوعد الشهير" الذي أصبح حجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة تجاه فلسطين للعامين التاليين، حتى رفضه خلفه، هاري س. ترومان، من خلال تأييده لتقسيم فلسطين عبر الأمم المتحدة.
قال الرئيس روزفلت بشكل قاطع: "بأنه يرغب في طمأنة جلالته بأنه لن يفعل شيئًا لمساعدة اليهود ضد العرب ولن يتخذ أي خطوة عدائية تجاه الشعب العربي"، وأن حكومته «لن تجري أي تغيير في سياستها الأساسية في فلسطين دون استشارة كاملة ومسبقة مع كل من اليهود والعرب.» وفي الخامس من أبريل، قبل أسبوع فقط من وفاته، كرر روزفلت هذا الوعد كتابيًا. فقد أرسل رسالة إلى الملك تحت عنوان «الصديق العظيم والصالح»، مؤكّدًا فيها صيغة «الاستشارة الكاملة» ووعده بأنه «لن يتخذ أي إجراء، بصفته رئيسًا للسلطة التنفيذية لهذه الحكومة، قد يثبت أنه عدائي تجاه الشعب العربي.»
كان الملك مسرورًا بوعد روزفلت، لكن يبدو أنه بالغ في أهمية هذا الوعد أو جديته، وكما لاحظ إيدي في ذلك الوقت، فقد أخذ عبد العزيز الوعد باعتباره التزامًا من الولايات المتحدة، وليس مجرد "عهد شخصي" من قائدها الحالي، وكتب إيدي: "في المحادثة، لم يَبْدُ أن الملك يميز بين روزفلت كشخص، وبينه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية»، وأوضح إيدي: "أنه بالنسبة لملك مثله مطلق بلا قيود، فقد رأي أن الرئيس والدولة شيء واحد"، وأضاف: "إن عدم فهم الملك لهذا التمييز يفسر غضبه وخيبة أمله، عندما أيد ترومان تقسيم فلسطين بعد الحرب واعترف بالدولة اليهودية الجديدة هناك" .
والحقيقه أنه عند عودة روزفلت إلى واشنطن، قال للكونغرس: "إن هناك مشكلة في الشرق الأوسط وأنه تعلم عن هذه المشكلة كلها - المشكلة الإسلامية، والمشكلة اليهودية - من حديث مع ابن سعود خلال خمس دقائق أكثر مما كان يمكن أن يتعلمه من تبادل اثنتين أو ثلاث من عشرات الرسائل"، لكنه لم يوضح بالضبط ما الذي تعلّمه.. وكما لاحظ أحد مساعديه الكبار بسخرية: «الشيء الوحيد الذي تعلّمه هو ما كان الجميع يعرفه بالفعل، أن العرب لا يريدون مزيدًا من اليهود في فلسطين.»
إلا أن المسألة لم تتوقف عند حد العهد الأمريكي فقط، فبعد أن قدّم روزفلت للملك ذلك التعهّد، طرح روزفلت إقتراح إرسال بعثة عربية إلى بريطانيا والولايات المتحدة، للدفاع عن الموقف الرافض للطموحات الصهيونية، بحجة أن «الكثير من الناس في أمريكا وإنجلترا لديهم معلومات خاطئة»، ورد الملك بأن مثل هذه البعثة قد تكون مفيدة، لكن "الأهم بالنسبة له هو ما قاله الرئيس للتو بشأن سياسته هو نفسه تجاه الشعب العربي" .. أي أن الملك السعودي، مثل كل أمير عربي مسلم يأخذ " العهد" بجدية كاملة ، ويعتبره إلتزام شرف علي من قطعه علي نفسه أو عشيرته ، آو كما يقال بإختصار : "كلمة شرف".
بعد ذلك تحوّل الحديث بين الإثنين إلى سوريا ولبنان، حيث كان العرب يخشون أن تسعى فرنسا المحرَّرة لإعادة فرض سيطرتها بعد الحرب. وسأل عبد العزيز عن موقف الولايات المتحدة «في حال استمرت فرنسا في فرض مطالب لا تُحتمل على سوريا ولبنان». أجاب روزفلت بأن فرنسا قدمت له ضمانات مكتوبة بأن سوريا ولبنان سيُمنحان الاستقلال، وأنه ينوي إلزام الفرنسيين بوعدهم. وأضاف للملك: "في حال أحبطت فرنسا استقلال سوريا ولبنان، فإن حكومة الولايات المتحدة ستقدّم لسوريا ولبنان كل دعم ممكن دون اللجوء إلى القوة" .
ثم حوّل الرئيسُ الحديثَ إلى اتجاه آخر تمامًا عندما طرح إمكانية أن تُطوّر المملكة العربية السعودية زراعيًا عبر الريّ وتقنيات الزراعة الحديثة - وهي الرؤية التي ألهمت اهتمامه بالبلاد عندما حلق فوقها بعد مؤتمر طهران عام 1943. لم تكن الفكرة بعيدة المنال كما قد تبدو في ذلك الوقت؛ فقد حدد فريق أمريكي بقيادة المهندس كارل تويتشل مناطق في البلاد يمكن فيها تحقيق الريّ، كما كانت بعثة أرامكو تزرع محاصيل نافعة في المزرعة الملكية التجريبية في الخرج، حيث كانت المضخات تستخرج كميات كبيرة من المياه الجوفية.
ووفقًا للمذكرة المشتركة: "تحدث الرئيس عن اهتمامه الكبير بالزراعة، مبيّنًا أنه مزارع بنفسه، وأكد الحاجة إلى تطوير مصادر المياه لزيادة الأراضي المزروعة وكذلك لتشغيل عجلات العمل في البلاد، وأبدى اهتمامًا خاصًا بالريّ والتشجير والطاقة المائية، التي كان يأمل أن تُطوّر بعد الحرب في بلدان عديدة، بما في ذلك البلاد العربية. ولأنه يحب العرب، ذكّر جلالته بأن زيادة الأراضي المزروعة ستقلل من الصحراء وتوفر سبل العيش لعدد أكبر من العرب" .
فأجابه الملك: "لقد أصبحت كبيراً في السن علي أن أكون مزارعًا، وكنت سأهتم بتجربتها كثيرًا لو لم أكن قد أصبحت كبيرًا على البدء بها.» وشكر الملكُ الرئيسَ على اهتمامه، لكنه أضاف: «إنه لا يستطيع أن يُقبِل بحماسة على تطوير زراعة بلاده وأعمالها العامة إذا كان ازدهارها هذا سيرثه اليهود"، ولا يوجد سجل لما قاله روزفلت ردًا على ذلك.
ومما يتضح من روايات المشاركين والشهود على الاجتماع أن الرئيس الأمريكي والملك العربي - رغم اختلافهما التام في اللغة والدين والتعليم ومعرفة العالم - قد أحبّ كل منهما الآخر وأعجب به، ونشأت بينهما علاقة شخصية طيبة.
لقد منح التقدير المتبادل بين الرجلين روزفلت واحدًا من النتائج - الأقل توقعًا - من لقائهما: فقد حقق روزفلت انتصارًا تكتيكيًا واستراتيجيًا على تشرشل، الذي كان يأمل في إبقاء السعودية ضمن دائرة النفوذ البريطاني بعد الحرب، رغم قرار الملك قبل عقد من الزمن بمنح عقد التنقيب عن النفط لشركة أمريكية.
وفي تقريره لوزارة الخارجية عن هذه المحادثة، أضاف إيدي تفصيلًا مهمًا لم يُذكر في المذكرة المشتركة. إذ سأل الملكُ روزفلت عمّا يجب أن يقوله للبريطانيين الذين يجادلون بأن مستقبل بلاده معهم لا مع الولايات المتحدة، لأن اهتمام أمريكا بالمنطقة عابر وسيزول بعد الحرب، وقال إن البريطانيين أبلغوه بأنهم سيكونون مسؤولين عن الأمن والاتصالات الدولية في المنطقة، و "استنادًا إلى قوة هذا الادعاء يسعون إلى أن تكون لهم الأولوية في السعودية. فماذا أصدق؟ " .
لقد كان لدى البريطانيين نقطة قوة بالفعل؛ ففي ذلك الوقت كان نفوذهم هو السائد في منطقة الخليج العربي، لكن رؤية روزفلت تجاوزت هذا الاستعمار المتبقي. وقد قال للملك إن "خططه لعالم ما بعد الحرب تتصور تراجع مناطق النفوذ لصالح سياسة الباب المفتوح؛ وأن الولايات المتحدة تأمل أن يظل باب المملكة العربية السعودية مفتوحًا لها ولغيرها من الدول، دون احتكار من أحد؛ لأنّ ازدهار الشعوب الحرة لا يمكن أن يدور إلا عبر التبادل الحر للسلع والخدمات والفرص" .
وقد كان هذا أقرب بكثير إلى ما يفضله الملك من الطرح البريطاني، لأن أكبر ما كان يخشاه ، وهو يفتح بلاده للمساعدة الفنية الأجنبية التي يحتاجها، هو المساس بالسيادة السعودية، وكان دائم الشك في نوايا البريطانيين.
-----------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق






