القدح والسبّ والتهديد أصبح اليوم “ترند” عادي في الفضاء الليبي، إلى درجة أنّك تكاد تتهم بالسذاجة إذا طالبت بلغة محترمة أو نقاش هاديء.
ما سمعناه مؤخرًا من بعض من يُفترض أنهم إعلاميون او مؤثرون على الشاشات والمنصّات ليس مجرد “رد فعل انفعالي”، بل علامة خطيرة على حالة انحدار أخلاقي تتغلغل في المجتمع الليبي وتتم شرعنتها تحت عناوين الحرية، والرجولة، والدفاع عن الوطن والدين.
المشكلة ليست في شخص بعينه، بل في تصفيق الجمهور. في تعليقات تشجع السب وتبرر التخوين تحول القذف إلى نكتة.
عندما يتحول اللسان إلى أداة للاغتيال المعنوي، ونتعامل مع الأعراض والسمعة وكأنها "كارطة" على موائد السياسة والإعلام، فهذه ليست “حرية رأي” بل فوضى قيمية حقيقية.
ما يزعج أكثر هو أن كثيرا من هذه التجاوزات تصدر من أشخاص يرتدون بدلة الإعلام والصحافة، أو يقدمون ك “شخصيات عامة” و“قدوة للشباب”.
في حين أن أول شرط لأخلاقيات أي مهنة – خصوصا الإعلام – هو احترام كرامة الإنسان، والالتزام بالحقائق، والابتعاد عن خطاب الكراهية والتحريض.
عندما يتحول الميكروفون إلى عصا للضرب، والكاميرا إلى منصة لتصفية الحسابات الشخصية، فنحن أمام خيانة للمهنة قبل أن تكون إساءة للضحية.
الانحدار الأخلاقي لا يبدأ من الشتيمة فقط، بل من صمتنا عنها. من تبريرنا: “خليه يفرّغ، هو يعبر عن غضب الناس”، أو “هي تستاهل، هو قال الحق”.
كل مرة نسكت فيها عن تجاوز كهذا، نرسل رسالة خفية لأولادنا وبناتنا بأن الإهانة مقبولة، وأن كسر هيبة الآخر سلاح مشروع في الخلاف.
ثم نتفاجأ حين نجد هذه اللغة نفسها في المدارس، والشارع، وبيوتنا.
المجتمع الذي يسقط خصومه بالسب بدل الحجة، وبالتخوين بدل النقاش، لا يمكن أن يبني ديمقراطية ولا عدالة ولا مصالحة حقيقية.
لا يمكن أن نطالب بقضاء نزيه ونحن نصف خصومنا بـ“المجرمين” على الهواء قبل أن يقول القاضي كلمته.
ولا يمكن أن نتحدث عن دولة قانون بينما نمارس أبشع أنواع “الإعدام المعنوي” في التعليقات والمنشورات.
نحن اليوم في حاجة إلى ثورة قيم قبل أي ثورة سياسية.
إلى أن نعيد الاعتبار لفكرة “الاختلاف المحترم”، وأن نفصل بين النقد والمساس بالكرامة، بين كشف الفساد وإهانة الأشخاص.
نحتاج أن نرى مؤسسات إعلامية تضع مواثيق شرف واضحة، وتوقف أي مذيع أو ضيف يتجاوز حدود الأدب، وأن يتوقف الجمهور عن دعم المحتوى المنحط مهما وافق هواه السياسي.
الليبيون يستحقون خطاباً يرفع من وعيهم لا منسوب الكراهية في قلوبهم.
المعركة الحقيقية اليوم ليست فقط على النفط والسلطة، بل على روح هذا المجتمع: هل نريدها اروحاً ملوثة بالسب والتخوين، أم روحاً تحفظ للإنسان كرامته حتى وهو خصمنا؟
الجواب يبدأ من كلمة نكتبها، من تعليق نرفض فيه الإساءة، ومن موقف واضح لا يساوم على الأخلاق تحت أي ذريعة.
-------------------------------
بقلم: صابر بن عامر






