06 - 12 - 2025

مصير السُلطة في مصر

مصير السُلطة في مصر

من النادر في مصر أن يمرّ حُكم دون أن يطارده السؤال التاريخي: ما مصير الحاكم؟ ليس لأن المصريين مولعون بالتكهّن، بل لأن السلطة في هذه البلاد ليست وظيفة إدارية ولا مقعدًا تُنتزع شرعيته عبر أوراق رسمية. الحكم هنا – منذ الفراعنة وحتى اليوم – جزء من نَفَس التاريخ، وامتدادٌ لبنية المجتمع، ومرآة للحظة التي يقف فيها البلد أمام نفسه. ولعلّ أكثر ما يميّز التجربة المصرية أن مصير السلطة لم يُكتب يومًا في غرف مغلقة، بل تشكّل دائمًا في الشارع، في وجوه الناس، وفي قدرتهم على منح الثقة أو سحبها بصمتهم قبل هتافهم.

حين ننظر اليوم إلى موقع الرئيس عبد الفتاح السيسي، تبدو الصورة شديدة التعقيد. فالرجل يقود بلدًا يقف عند مفترق حساس: اقتصاد يضغط بقوة على البيوت، ومجتمع يعيد تشكيل أولوياته وقيمه، وإقليم يتغير بسرعة تفوق ما اعتادته القاهرة تاريخيًا. وفي مثل هذه اللحظات، يصبح السؤال حول مستقبل السلطة ليس توقعًا سياسيًا، بل أداة لفهم توازنات القوة، وقياس مدى استعداد الحكم لتغيير قواعده حين تفرض الظروف ذلك.

لا يمكن إنكار أن الرئيس السيسي نجح في إعادة الدولة إلى صدارة المشهد، وفي دفع مشروعات ضخمة ستظل علامات بارزة في البنية التحتية للبلاد. لكن هذا الوجه من الصورة لا يُلغي الوجه الآخر: ثقل الاقتصاد على أكتاف الناس. فحين تزداد الضغوط، يصبح على السلطة أن تتحرك بخفة أكبر، وأن تُصغي بدل أن تكتفي بالإملاء، وأن تنظر إلى المجتمع باعتباره شريكًا لا جمهورًا يُنتظر منه التصفيق في اللحظات الحرجة.

وهنا يتبادر إلى الذهن مثال بعيد في الزمن، قريب في الدلالة: النبي داوود عليه السلام. ليس بوصفه رمزًا دينيًا فحسب، بل كنموذج لقيادة أدركت أن القوة وحدها لا تصنع الاستقرار، وأن الحكمة وحدها لا تكفي إذا لم تُترجم إلى عدالة حقيقية.

فداوود – كما يروي القرآن – كان نبيًا وملكًا يجمع بين السلطة ومسؤولية الحكم، وكان الله قد آتاه الحكمة وفصل الخطاب. ومن أشهر وقائع الإنصاف في عهده قصة الخصمين اللذين تسوّرا المحراب: إذ دخلا عليه فجأة ففزع منهما، فقالا إن أحدهما يملك تسعًا وتسعين نعجة والآخر نعجة واحدة، وأن صاحب العدد الأكبر يطالبه بضم نعجته إلى نعاجه. وهنا مال داوود إلى حكم سريع دون أن يسمع من الطرف الآخر سماعًا كافيًا، فحكم لصاحب الشكوى. لكنّه أدرك – بإلهام من ربه – أنه استعجل، وأن الله إنما اختبره، فسجد لله تائبًا معترفًا بحدود البشر أمام ثقل العدل. فكان الدرس خالدًا: السلطة التي لا تراجع نفسها، تبتعد عن الناس ويبتعد عنها التاريخ.

وعلى ضوء هذا، يمكن قراءة المشهد المصري من خلال ثلاثة مفاتيح تبدو أكثر أهمية من أي خطاب أو مشروع ضخم:

أولًا: اقتصاد بإدارة أكثر حساسية.

المواطن لا يطلب معجزات، بل مسارًا واضحًا نحو تحسن ملموس. فالاستقرار لا يُبنى على الصبر اللانهائي، بل على ثقة الناس بأن الغد أفضل من اليوم ولو بدرجة واحدة.

ثانيًا: انفتاح سياسي محسوب.

المجال العام ليس عبئًا على السلطة، بل جهاز إنذار مبكر. حين تضيق المساحة، تتراكم الأزمات بصمت، وتنفجر بطريقة لا أحبّ لأحد أن يقرأها مجددًا في صفحات التاريخ.

ثالثًا: شراكات أوسع داخل المجتمع.

لا دولة تستطيع أن تدير نفسها وحدها. فالقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والشباب، هذه ليست ديكورًا، بل قوى حقيقية قادرة على حماية أي مشروع ورفعه، أو تركه يواجه مصيره منفردًا.

ما يهمّ في النهاية أن التاريخ المصري لم يعطِ حاكمًا هدية مجانية. الجميع كان عليه أن يفهم إيقاع الناس، مزاجهم، وذكاءهم الجمعي الذي يلتقط الخطأ قبل أن يظهر رسميًا. واللحظة الراهنة ليست استثناءً. فمصير الحكم - اليوم وغدًا - لن تحدده الإرادة المنفردة ولا قوة الأجهزة، بل قدرة القيادة على الإصغاء، وعلى التصحيح، وعلى إدراك أن الزمن تغيّر، وأن المصريين صاروا أكثر حساسية تجاه ما يصيب يومهم المباشر.

إن الحكم في مصر صفحة تُكتب كل يوم. خطوطها الأولى بيد الناس، ثم تأتي السلطة لتكملها، ويأتي الحاكم ليضع توقيعه الأخير. وبين التاريخ وامتحان اللحظة، لا ينتصر من يمضي بثقة عمياء، بل من يملك شجاعة الاعتراف قبل شجاعة المواجهة.. وهذه وحدها، في مصر، هي وصفة النجاة.
--------------------------
بقلم: إبراهيم خالد

مقالات اخرى للكاتب

فلسفة ضياء رشوان في ترويض