في عام 1983 أصدر نجيب محفوظ روايته «رحلة ابن فطومة»، عنوان يستدعي مباشرة الرحالة الشهير ابن بطوطة. أما بطل الرواية فهو قنديل محمد العنابي، المعروف بلقب ابن فطومة نسبة إلى أمه. ينتمي إلى أسرة تعمل في تجارة الغلال، كان أبوه مترعًا بالثراء، مات قبل تنطبع صورته في نفس ابنه، وترك له مالًا وفيرًا. غير أن إخوته من الأب أطلقوا عليه لقب ابن فطومة استخفافًا به وتشكيكًا في نسبه وتبرأوا من قرابته.
نشأ قنديل في كنف أم ربّته على حب المعرفة، وغرس فيه شيخه ابن مغاغة شغف السفر، وملأ خياله بالحديث عن دار الجبل، تلك الأرض التي تتجسد فيها صورة الكمال المطلق. يقرر ابن فطومة السفر في العشرين من عمره، بعد أزمة عاطفية عنيفة ألمّت به، بانتزاع خطيبته حليمة قبل أيام من زواجهما من قبل أحد المسؤولين ، ويزداد جرحه عمقًا بزواج أمه من شيخه.
يعطي محفوظ رحلة بطله على غرار رحلات الرحّالة القدماء طابعًا استكشافيًا لعادات الشعوب وتقاليدها، وفي الوقت نفسه تتحول إلى مسار رمزي يكشف عن طبيعة النظم السياسية المختلفة التي عرفتها البشرية.
تنطلق الرحلة من (الوطن) دار الإسلام، التي يصوّرها محفوظ بوصفها فضاءً راكدًا؛ فالإسلام فيها حبيس الجوامع، لا يتجاوز جدرانها إلى حياة الناس. يهيمن عليها "إبليس" لا "الوحي"، ولا جديد فيها: «لكن الجديد حقًا لن تعثر عليه في ديار الإسلام؛ جميعها متقاربة في الأحوال والمشارب والطقوس، بعيدة كلها عن روح الإسلام الحقيقي» (ص 9).
جمعت هذه الديار أسوأ ما في الأنظمة السياسية، وضمنتها بنيتها الحاكمة، فيجد البطل نفسه ضحيةً للظلم، غير قادر على مواجهة السلطة، فيلتحق بقافلة تجارية تنطلق نحو أولى المحطّات دار المشرق.
تظهر دار المشرق بوصفها دولة وثنية يعبد أهلها القمر، مجتمع أمومي ينسب فيه الأطفال إلى أمهاتهم. ينتشر فيها مبدأ الشيوع؛ فالمرأة تختار شريكها وتتركه عند رغبتها، ويسير الناس فيها نساء ورجالًا عراة، يعيشون في الصحراء على هيئة جماعات تخضع جميعها للملك وتدين له بالعبودية مقابل توفير الحماية من الأخطار الخارجية.
يقرّر البطل البقاء في هذه الدار البدائية بعدما يقع في غرام «عروسة» تشبه في ملامحها حبيبته الأولى حليمة. تستمر علاقتهما لأعوام على غير عادة أهل هذه البلاد، يرزق منها أطفالًا ، فيظن أهلها أن استمرارها جاء بفعل سحرٍ جلبه من بلاد الإسلام.
وكما فرّق حاكم دار الإسلام بين ابن فطومة وخطيبته الأولى، يعيد ملك دار المشرق الفعل ذاته؛ إذ يتهم البطل بأنه يربي ابنه على تعاليم الإسلام المخالفة لعقيدة الدولة، فيصدر أمره بنفيه خارج البلاد، لتتتابع رحلته من جديد نحو دار أخرى، باحثًا عن معنى العدل والكمال.
تأتي المحطة الثالثة من رحلة البطل في «دار الحيرة»، دولة عسكرية دينية يحكمها السلاح وتقوم عقيدتها على تأليه الملك. يصبح كل من ينادي بالحرية أو يطالب بالعدالة عرضة للسجن مدى الحياة، بينما لا تتورع الدولة عن شن الغارات على جيرانها لنهب الثروات، مستخدمةً ذرائع مصطنعة لتبرير مجازرها الوحشية.
ووفقًا لهذا المبدأ تشنّ دار الحيرة هجومًا على دار المشرق، فتقتل رجالها وتسبى نساءها. فيتمكن ابن فطومة من شراء «عروسة» من سوق السبايا، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من حياته معها، لكنّ حاكم الدار يطمع فيها ويطلب إليه أن يتركها له. وحين يرفض، تُجرى له محاكمة صورية تنتهي بإيداعه السجن. يمكث فيه عشرين عامًا، قبل أن ينقلب رئيس الجيش على الملك ويأمر بالإفراج عن المساجين، فتُفتح أبواب السجن أمام ابن فطومة ليواصل رحلته بحثًا عن حبيبته التي يعرف أنها سافرت إلى دار الحلبة.

تبدأ رحلة البطل الرابعة في دار الحلبة، دار متقدمة تقوم على مبدأ المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، تعلي من قيمة الحرية الفردية إلى حدّ خروج المظاهرات مطالبة بشرعية العلاقات الجنسية الشاذة. الجميع فيها سواسية أمام القانون، تقوم على أساس المواطنة لا الدين، دار علمانية رأسمالية متوحشة لا تعرف الرحمة، ولا تتورّع عن غزو جيرانها باسم نشر الحرية والتنوير.
يبحث ابن فطومة في هذه الدار عن زوجته عروسة، لكنه لا يعثر لها على أثر. وفيها يجد إسلامًا مختلفًا عن الإسلام الذي عرفه في وطنه، إسلامًا لا يقدّس النصوص تقديسًا جامدًا، يفتح أبواب الاجتهاد. ويأتي على لسان أحد الحكماء قوله مخاطبًا قنديل:
«انظر يا قنديل… وطنك دار الإسلام، فماذا تجد به؟ حاكم مستبد يحكم بهواه فأين الأساس الأخلاقي؟ ورجال الدين يطوّعون الدين لخدمته فأين الأساس الأخلاقي؟ وشعب لا يفكر إلا في لقمته فأين الأساس الأخلاقي؟» (ص114)
في هذه الدار يلمس قنديل قدرًا من الراحة، يتزوج من سامية الطبيبة، ويرزق منها ثلاثة أبناء. لكن رؤيته المفاجئة لــ"عروسة" تشعل في قلبه نار الحب القديم، فيقرر أن يواصل رحلته بحثًا عنها، خصوصًا بعد أن يعلم بوفاة زوجها في رحلته إلى دار الأمان. يترك خلفه سامية وأطفاله الثلاثة، مدفوعًا بنداء داخلي أن طريقه لم يكتمل بعد.
يصل ابن فطومة إلى المرحلة الخامسة: «دار الأمان»، دولة اشتراكية تعلي من قيمة العدل والمساواة الصارمة؛ فالناس فيها سواء، الكل يعمل بلا استثناء، الأطفال يربون في أماكن مخصصة بعيدًا عن أسرهم، بينما يعمل الرجال والنساء طوال اليوم. أما العجائز فيجمعون في الحدائق العامة يقضون ما تبقى من أعمارهم تحت رعاية الدولة.
تتشابه البيوت جميعها في الشكل والمساحة، فلا وجود لأي تمايز طبقي أو فردي. ومع هذه المساواة المطلقة يهيمن نمط واحد على الجميع، ولا يسمح بالاختلاف في الرأي أو السلوك. ومن يعبر عن اعتراضه يتهم بالتمرد وتقطع رأسه في مشهد يكشف الوجه القمعي المتخفي وراء شعار العدالة.
وفي هذه الدار يعقد ابن فطومة مقارنة مؤلمة بين ما يراه وبين حال وطنه
«لكن ساءني أكثر ما آل إليه حال الإسلام في بلادي؛ فالخليفة لا يقل استبدادًا عن حكّام الأمان، وهو يمارس انحرافاته علانية، والدين نفسه تهرّأ بالخرافات والأباطيل، أما الأمة فقد افترسها الجهل والفقر والمرض» (ص133).
يخرج البطل من دار الأمان وقد أدرك أن المساواة التي تُمحى معها الحرية لا تختلف كثيرًا عن الاستبداد الذي هرب منه.
يترك ابن فطومة دار الأمان بعدما يعلم أنّ عروسة واصلت رحلتها إلى «دار الغروب»، دار ذات طابع صوفي خالص بلا حرّاس، جنة بلا ناس، يفيض فيها الخير بلا حساب، وتبدو كما لو كانت جنة الغائبين، أو محطة استراحة للأرواح المتعبة قبل الوصول إلى مرتبتها الأخيرة.
في هذه الدار يلتقي البطل بشيخها العارف، الذي يتولى إعداد الناس للانتقال إلى «دار الجبل» عبر تدريب صوفي شاق، فأهل دار الجبل لا يستعملون الحواس ولا الأطراف، وهم قادرون على الطيران.
يسأل ابن فطومة عن عروسة، فيخبره الشيخ بأنها استطاعت بلوغ دار الجبل بسهولة وسرعة، بسبب ما عانته من آلام مضنية في حياتها. ويواجِه الشيخ البطل بحقيقة مُرة، مؤنّبًا إيّاه على ضعفه:
– إنك من الهاربين، تعلّلت بالرحلة فرارًا من الواجب…
– كنت فردًا حيال طغيان شامل.
– هذا عذر الخائر (ص149).
تتعرض واحة الغروب، هذا الملاذ الصوفي، لهجوم من دار الأمان، فيضطر أهلها إلى الرحيل قسرًا نحو دار الجبل. يحذرهم الشيخ قائلاً إنّ طريقهم سيكون صعبًا، لأنهم لم يبلغوا من التدريب الروحي ما يكفي لعبور هذا المقام.
وتنتهي الرحلة بأن يسلم ابن فطومة مخطوط رحلته إلى أحد أبناء وطنه، قبيل دخوله دار الجبل، ولا يعرف بعد ذلك أحد ما حلّ به.
يقدم نجيب محفوظ في هذه الرواية رحلة صوفية خالصة، تشبه في بنيتها رحلة الطيور في «منطق الطير» لفريد الدين العطار، تتنقّل الطيور من وادٍ إلى وادٍ بحثًا عن السيمورغ كي تتحد به، ويسقط على الطريق من لم يحتمل العناء، ولا يصل إلا الصادقون.
تمثل رحلة ابن فطومة في جوهرها، مسارًا رمزيًا عبر الأنظمة السياسية والحضارية التي عرفتها البشرية على مر التاريخ: النظام البدائي، والعسكري، والديني، والرأسمالي، والاشتراكي. كل دار من هذه الدور تعلي قيمة معينة وتهمل أخرى، فتختل الموازين. فـدار الحلبة مثلًا تحتفي بالحرية إلى حد الانفلات، وتُغفل قيمة الرحمة، لتسقط في مادية قاسية بلا ضوابط. أما دار الأمان فتمجد العدالة المطلقة، لكنها تذيب الفرد في الجماعة، حتى يتحول الإنسان إلى ترس في آلة بلا روح.
يكشف محفوظ أن كل نظام يحمل فضائله وعيوبه، يمنح جانبًا وينتزع آخر، ولذلك لا يصلح أي منها ليكون موطنًا نهائيًا للبطل أو نموذجًا كاملًا للاستقرار، الوصول إلى دار الجبل يحتاج إلى عزيمة وصدق.
في هذه الرواية يعيد محفوظ، على نحوٍ ما، كتابة «أولاد حارتنا» برؤية مغايرة بمعالجة القضية ذاتها، عجز الخرافة، الدين، العلم، الفلسفة عن توفير السكينة المنشودة للإنسان. غير أنّ محفوظ، بخلاف ما فعله في أولاد حارتنا، يجد هنا بارقة خلاص جديدة ذات طابع صوفي، تعلي من قيمة الروح وتضع الإنسان في طريق داخلي نحو السعادة الغائبة، لا في مواجهة عقلية أو صراعية مع الكون.
تتجلّى في الرواية النبرة الثورية الرافضة للظلم، تلك التي تتكرر في أعمال محفوظ، تبلغ هنا ذروتها. البطل يُؤنب على قبوله الظلم بدعوى أنه فرد ضعيف أمام جبروت السلطة، موقف يمثل انعطافة واضحة مقارنة بما يظهر في بعض رواياته الأخرى، مثل رواية حديث الصباح والمساء، التي تقول إحدى الشخصيات جملتها الشهيرة: «ما الحيلة؟ … أمامنا رجل يدّعي الزعامة وبيده مسدس.»
تطرح رحلة ابن فطومة رؤية جديدة واضحة بأن الحياة لا قيمة لها مع الخضوع سواء للنص أو السلطة السياسية، لا معنى للرحلة دون مقاومة الظلم، والكمال لا يأتي إلا بتحرير الروح عبر طريق صوفي يجعلها جديرة بالحرية والسعادة المنشودة.
------------------------------
بقلم: د. عبدالكريم الحجراوي







