28 - 11 - 2025

البحث عن ذات (3)

البحث عن ذات (3)

إذًا، فقد ورث طلعت عن أبيه، الحاج مرسي، حقده وازدراءه لتلك الطبقة المثقفة والمتعلمة، والتي عبر عنها الروائي الكبير فتحي غانم، بشخصية رجل القانون عبد الحميد بك وعائلته، في روايته الرائعة "قليل من الحب.. كثير من العنف"، والتي تحولت إلى فيلم بنفس العنوان.

ورغم أن طلعت تخرج في كلية الهندسة، إلا أنه بتكوينه وثقافته التي تربى عليها، ظل يعاني من إحساس بالنقص كلما قابل يونس، ابن عبد الحميد بك، زميله في العمل، فيقرر في لحظة أن ينسلخ من ماضيه، فطلق زوجته وتقدم لخطبة ابنة عبدالحميد بك، وكان مدخله في ذلك ما عرضه من مهر وشبكة وهدايا للعروس وأهلها.

ولا أُخفي عليك سيدي القارئ، أن المال قد فعل فعله في تلك الأسرة التي شبت على قيم ومبادئ عالية، وتلقت من التعليم والاطلاع على الثقافات الأجنبية قدرًا أضاف إليها رقيًا فوق رقي، ظهر في تعاملاتها اليومية، وفي تلك اللغة التي يستخدمونها فيما بينهم وبين الآخرين، وكأنها وقف عليهم، من هنا بلورت سارة موقفها من طلعت حين سُئلت عن رأيها، فأجابت أخيها في حضور والديها قائلة:

" أعلم أنك تدافع عني، وتقلق أني أقبل الزواج منه رغم أني اتهمته بالسوقية، لأني محتاجة إلى أمواله، ولكن هذا غير صحيح. صدقني أني أتزوجه بنفس الشعور الذي عندك عندما قبلت العمل في شركة البترول حيث تتحمل الحياة على غير ما تودها في معسكر حياة خشنة مرهقة. ولكنك تمارس عملاً وتؤدي واجباً. وأنا أريد أن أعمل في مشروع طلعت.. مشروع أن أجعل منه إنساناً محترماً، بعد أن عجز على احترام نفسه، رغم كل ما يملكه من مال .."

وقد كان لهذا الكلام وقعًا مختلفًا على أفراد الأسرة، ارتاحت الأم ورأت أن زيجة كهذه لن تؤمن مستقبل ابنتها فقط، بل ومستقبل العائلة كلها، على النقيض رفض يونس ولم يتحرج من إظهار رفضه، فثار ساخطًا رافضًا، يرى في كل مبرر قبول تستر على ضعفٍ أمام طوفان المال الجارف.

أما أبوها فقد جالت في صدره هواجس عدة متضاربة الاتجاهات، فمن جانب يؤذن اقتراب خروجه إلى المعاش بانخفاض دخله، وإن شئت الدقة، انعدامه مقارنة بما يتقاضاه في وظيفته، فضلاً عن فقده هيبته ومكانته الاجتماعية، فهذا عامٌ يُبجل الجالس على الكرسي، فإذا ما غادره، تجنبوه، كأنما أصابه جربٌ مُعدٍ. ثم لا تلبث الهواجس تأخذ عبد الحميد بك إلى ما حَصَلَّ من مكانة في القضاء، وإلى من عرف من كبار القوم، وكيف أن اسمه كان كفيلاً بارتجاف الكثيرين، فكيف له أن يرضى بهذه الزيجة وهو وأسرته محط احترام وتقدير الجميع، إلا شخصين كانا يبغضونهم أشد البغض، ويتهمونهم سرًا بالنقائص، ويداهنونهم حين يلتقون بهم، عَلَّ تلك المداهنة تصل بهم إلى غرضهم، ألا وهو ارتباط طلعت بسارة، ولم يكن الشخصين سوى طلعت وأبيه.

وهكذا مرت الأحداث بين ارتباك واضطراب، إلى أن زارت زوجة طلعت السابقة يونس وقصت عليه قصتها مع زوجها، وكيف صارتا -هي وابنتها- مطمعًا للذئاب.

ولا أريد أن أُطيل عليك أكثر من ذلك، ويكفيني أن أخبرك أن الأمر انتهى إلى رفض سارة لطلعت، الذي شعر أن كرامته أُهينت، فتحول إلى ذئب شرس يتربص بأخيها يونس في مكان عمله وسكنه، ويتوعد أبيها يوم يخرج على المعاش، وما موعد خروجه ببعيد، ثم ما كان منه بعد أسابيع، إلا أن أرسل يدعو الأسرة إلى حفل زفافه، وقد كُتب إلى جوار اسمه في بطاقة الدعوة اسم فتاة، كانت لعائلتها نسب رفيع، ومكانة عالية قبل الثورة، وكأنه تعمد أن يخبرهم أنه اقترن بفتاة لا تقل عن فتاتهم، وبعائلة، ربما يفوق ماضيها حاضرهم.

ولكن الأيام سيدي القارئ لا تترك أحدًا على حال، فيونس الذي زارته فاطمة، زوجة طلعت السابقة، ذات يوم لتشكو له حالها، ورأى من باب الشهامة عيادتها ومساعدتها من حين لآخر، تعلق بها، وصار يعد الساعات في بعدها.

أما طلعت فقد كانت له شخصيتان متناقضتان أشد التناقض، الأولى الصارمة التي لا تعرف تهاونًا ويراها الجميع في العمل، والثانية الخانعة التي لا ترد كلمة لزوجته. يعيش على هواه خارج البيت، مكتفيًا من زوجته بتلك الواجهة الأرستوقراطية التي تمنحه إياها حين يخرجان متأبطين إلى المناسبات، فلا يلبث الناظر نحوهما أن يندهش ويتساءل بينه وبين نفسه، عن ذلك التناقض البادي في نشاز الملامح بين زوجته المزيج من جينات غربية وشرقية مع جمال طاغ، وبين مظهره البادي الثراء المفتقر للتناسق من قسمات وجهه إلى أنحاء جسمه.

ولا تظن أن الأمر انتهى عند هذا الحد، فكاتب كبير من طراز فتحي غانم، متخصص في تشريح المجتمع وترك القارئ حينًا في تناقض وحيرة، لا يلبث يقص عليه –دون أن يرمش له جفن- ما آلت إليه الأحداث، وهذا ما أتركه لك سيدي القارئ إن وجدت في نفسك رغبة في القراءة، فإذا لم تجد، فحسبك من المقال ما قرأت.
-----------------------------------

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]


مقالات اخرى للكاتب

البحث عن ذات (3)