كشفت قوات الأمن التركية شبكة تجسّس معقّدة تديرها الإمارات العربية المتحدة كانت تستهدف مؤسسات تركية حسّاسة، وفقًا لمسؤولين مطّلعين على مجريات التحقيق.
وقد أظهرت العملية، المنسّقة تحت إشراف مكتب المدعي العام في إسطنبول، أنّ عملاء استخبارات إماراتيين جمعوا بصورة منهجية بيانات بيوغرافية عن موظفين يشغلون مواقع رئيسية في الصناعات الدفاعية التركية ووزارة الخارجية.
ونُفِّذ التحقيق عبر عمليات ميدانية مشتركة بين منظمة الاستخبارات الوطنية (MIT) وإدارة مكافحة الإرهاب (TEM)، ما أسفر عن القبض على ثلاثة مشتبه بهم متورطين مباشرة في أنشطة جمع المعلومات. وصدر أمر توقيف بحق مشتبه به رابع تبيّن أنه فرّ إلى الخارج قبل العملية بفترة قصيرة، وقد باشرت السلطات التركية إجراءات دولية عبر الإنتربول لتأمين اعتقاله وتسليمه إلى تركيا.
وبسبب حساسية القضية، لم تُكشف هويات الموقوفين، لكن مسؤولين أمنيين أكدوا أن بينهم أتراكًا وأجانب كانوا يعملون بتوجيه من أجهزة الاستخبارات الإماراتية. وتأتي هذه الثغرة الأمنية في وقت تشهد فيه العلاقات التركية–الإماراتية تحسّنًا ملحوظًا، فقد اتخذ البلدان في السنوات الأخيرة، خطوات مهمة لتعزيز العلاقات، خصوصًا في القطاع الدفاعي، ووقّع الجانبان في يوليو الماضي، “اتفاقية الحماية المتبادلة للمعلومات المصنّفة في مجال الصناعات الدفاعية” خلال زيارة رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى أنقرة.
وقد اعتُبرت الاتفاقية، التي حدّدت تصنيفات موحّدة للمعلومات الحسّاسة وإجراءات التعامل مع الوثائق السرّية، ركيزة أساسية في تنامي التعاون العسكري، وشملت الاتفاقية أربع درجات سرية: سري للغاية، وسري، ومقيد، ومحظور، مع اعتراف متبادل كامل بين الطرفين.
لكن الحادث الأخير يُظهر أن توترات كامنة ما تزال حاضرة رغم مظاهر التقارب العلني، فالكشف عن عمليات استخباراتية إماراتية تستهدف موظفين في الدفاع والدبلوماسية التركية يوحي بأن نشاط التجسّس استمر بالتوازي مع قنوات التعاون الرسمية. ويُحتمل أن البيانات المُخترقة تشمل معلومات تفصيلية عن العاملين في مواقع حسّاسة داخل قطاع الصناعات الدفاعية التركية، وهو قطاع شهد نموًا لافتًا في السنوات الأخيرة، إذ رسّخت شركات مثل بايكار وأسيلسان وTAI مكانتها في الأسواق الدولية، خصوصًا بفضل الطائرات المسيرة مثل بيرقدار TB2 التي أثارت اهتمامًا واسعًا في دول الخليج.
ويرى محللون أمنيون أنّ جمع البيانات البيوغرافية قد يتيح لأجهزة استخبارات أجنبية تحديد نقاط الضعف المحتملة لدى موظفين يملكون صلاحيات على معلومات سرية، بما قد يعرّض الأمن القومي والتكنولوجيا الدفاعية للخطر. وقد أظهرت وزارة الداخلية التركية مؤخرًا فاعلية متزايدة في التعاون الأمني الدولي عبر تنفيذ عمليات ناجحة لتسليم مطلوبين من عدة دول، ويجري الآن توظيف هذه المنظومة لمعالجة الخرق الأمني الذي كشفته العملية الأخيرة.
ويشير خبراء أمنيون في المنطقة إلى أنّ الحادث يعكس الطبيعة المعقّدة للعلاقات التركية–الإماراتية، التي شهدت تقلبات كبيرة خلال العقد الماضي.
وقالت غونول تول، الزميلة البارزة في معهد الشرق الأوسط: “التنافس الاستخباراتي يبدو مستمرًا بين الطرفين على الرغم من التحسن الكبير في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين تركيا والإمارات منذ 2021، مع تعهّد الإمارات باستثمار 10 مليارات دولار في قطاعات تركية تشمل الصناعات الدفاعية".
وتُظهر التقارير أن اهتمام الإمارات بالتكنولوجيا الدفاعية التركية موثّق جيدًا، خصوصًا مع سعي أبوظبي إلى تنويع شراكاتها الدفاعية وبناء قدراتها المحلية عبر التعاون مع الشركات التركية، لكن التطورات الأخيرة تلمّح إلى أن عمليات جمع المعلومات ربما تجاوزت القنوات التقليدية. ويأتي هذا الحادث أيضًا في ظل تصاعد الثغرات الاستخباراتية الإقليمية؛ فقد كشفت تسريبات حديثة من عمليات الاستخبارات الإيرانية عن أنماط مشابهة من التجسّس الإلكتروني استهدفت مؤسسات حكومية عبر الشرق الأوسط، بما في ذلك قواعد بيانات الشرطة في الإمارات، وتعكس هذه التطورات المتوازية حجم التنافس الاستخباراتي في المنطقة.
وأشارت السلطات التركية إلى أن التحقيق ما يزال مستمرًا، وأن فرق الأدلة الرقمية تفحص الأجهزة الإلكترونية وسجلات الاتصالات التي صودرت من المشتبه بهم. وقد دفع الخرق الأمني المؤسسات المعنية إلى مراجعة شاملة لبروتوكولات أمن الموظفين، لا سيما في قطاع الصناعات الدفاعية الذي حققت فيه تركيا مكاسب دولية كبيرة.
ولم تصدر الحكومتان التركية أو الإماراتية حتى الآن، أي بيان رسمي بشأن الحادث، فيما تظل القنوات الدبلوماسية بين البلدين مفتوحة، بما يوحي بأنهما قد يسعيان إلى معالجة الملف بهدوء للحفاظ على مسار العلاقات الإيجابي. ومن المتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة تعزيزًا للإجراءات الأمنية في المنشآت الحكومية الحساسة ومرافق الصناعات الدفاعية، إضافة إلى رفع مستوى التدريب المضاد للتجسّس للموظفين الذين يتعاملون مع المعلومات المصنفة.






