25 - 11 - 2025

فتحية القطان .. بِأبِه اقتدى عديٌ في الكرم

فتحية القطان .. بِأبِه اقتدى عديٌ في الكرم

لله درَّ المتنبي حين قال:

لا خيلَ عندك تُهديها ولا مالُ / فليُسعد النطقُ إن لم تُسعد الحالُ. ومراد المتنبي .. أنَّك إن عجزت عن أن تجود وتُرضي الناس بمالك، فلن تعجز عن رضاهم بالكلمة الطيبة؛ تعبيرا عن الوفاء والاعتراف بالجميل.

وهذا ما قصدتُه من وراء هذه المقالات عن هذه الشخصيات الفذَّة.

وشخصيةُ اليوم، أعتبرُ الحديثَ عنها مغامرة صعبة، تتطلبُ مني أن أحتشد لها، وأُحكِم أدواتي لأسباب منها أنها سليلةُ بيت علم وفضل، وشقيقةُ أديب أريب، يملك ناصية البيان، ويمسك بزمام الحكي، ومن ثم فمحاولتي التحدث عن أخته بمثابة بيع الماء في حارة (السقايين)، أو جلب التمر إلى هجر، وقطعا هذا لا يجوز، ولكن دعونا نحاول .

الحاجة فتحية القطان، لم أشرُف بالتتلمذ على يديها، ولكن ما سمعتُه عن كريم خلقها، ونُبل سجاياها، وسخاء يدها، وطيبِ عشرتها، وحسن رعايتها لزوجها وأولادها، جعلني شغوفا بتسطير هذه الحروف عن تلك البطلة، التي كانت نموذجا يُحتذى في كلِّ ما تصدّرت له من مهام .

نشأتْ فتحية عبد المطلب القطان في بيت علم وجود، فأبوها من الرعيل الأول، الذين مشوا في سكك العلم ودروب المعرفة، برغم شدة الفقر والعوز، فقطعَ شوطا لا بأس به في زمن كان يُعدُّ الحاصل على الابتدائية أو الإعدادية (خوجة)، يُشار إليه بالبنان، يُطاع إذا أمر، ويُؤخذ برأيه إذا حكم، فما بالك لو تخرج في مدرسة المعلمين، وصار من الخريجين الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة .

ألمَّ الوالد بفروع اللغة العربية؛ لدراسته في الأزهر، وامتاز بروعة الخط، وحسن المنطق، وعرف كثيرا من نظريات التربية وأصولها، التي جمعها من بطون الكتب، فترجم ما تعلَّمه عمليا على أولاده، الذين صاروا نجوما متلألئة في ميادين عدة، ومن بين هؤلاء الحاجة فتحية القطان .

تخرجتْ فتحية في مدرسة المعلمين، وسيقت سريعا إلى بيت الزوجية، إذ كانت مطمحا للكثيرين؛ لانتمائها لبيت يضرب بجذوره في الشرف والسؤدد والعلم .

وبيد أنَّه من يخطب الحسناء لم يغلها المهرُ، فقد فاز بها زوجة وأما لأولاده ابن عمي الحاج سعد مهدي الموجي رحمه الله، والذي بذل في تحقيق هذه الأمنية الغالي والنفيس .

شَيَّدت فتحية القطان مع زوجها بيت الزوجية بلبنات المودة والرحمة، والتعاون على البرِّ والتقوى، فتوزعت الأدوار دون أن يُخلَّ أحدٌ بواجبه، فسعدٌ للكد والعمل؛ لتوفير لقمة العيش، وفتحية للعمل في المدرسة بالصباح دون أن يطغى ذلك على واجبها أمّا من طراز فريد .

ملكت فتحية مقومات المعلمة الناجحة، فكانت حصَّتُها ورشة صقل وتدريب وتربية لتلاميذ فصلها، فلم تكف يوما عن الشرح والإعادة، وابتكار الأساليب والوسائل، التي تزيد من تحصيل التلاميذ واستيعابهم .

آمنت فتحية برسالة المعلم، وقامت بها خير قيام، فنجحت مُعلمة ومديرة، تُحسن التصرف، وتجيد الفعل، وتحسم القرار بلغة تقوم على الاحترام والتقدير، وتُجبر الجميع على الإذعان لرأيها.

ولم تنجح فتحية القطان معلمة ومديرة فحسب، بل نجحت أما، أحسنت الرعاية والتعهد، فجنت ثمارا يانعة، إذ نبغ جميع أبنائها، والتحقت أكثر من بنت من بناتها بكلية الطب، تلك الكلية، التي تعتبر طموح كلِّ أب لأولاده، وتخرج وحيدها في كلية الهندسة، وامتاز بدماثة خلق، وحسن حديث، يُحسد عليه، والفضل في ذلك كله لأمه أطال الله في عمرها .

لا تحضرني مواقفُ من حياة هذه الشخصية الفذة علما وخلقا، ولكنّ نجاحها في ميادين حياتها، ويشهد بذلك كلُّ من عرفها وعاملها، يُثبت أنها امرأة فولاذية، طوَّعت الحياة لمرادها هي، ولم تكسرها الظروفُ القاسية، التي عاشتها في قرية، ترزح تحت نير الفقر والعوز، لسان حالها: متى توافرت الإرادة والعمل تحقق الهدف .

الحاجة فتحية القطان نموذجٌ للرأي السديد، والعمل الدءوب، والإرادة الصلبة، والمرأة، التي تفضُل آلاف الرجال، ونجاحها معلمة وأما وزوجة وجارة، تحسن إلى جيرانها دليلٌ وبرهان لكلِّ ذي بصر .
---------------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

فتحية القطان .. بِأبِه اقتدى عديٌ في الكرم