الحمد لله على نعمة الوسط، تلك المساحة الهادئة التي يتنفس فيها الإنسان بعيدًا عن مبالغات الحياة وضجيجها. فليس كل ما يبدو فضيلة يظل كذلك إذا أُطلق بلا قيود، ولا كل خلق جميل يبقى جميلًا حين يُفتح له الباب على مصراعيه.
فالوسطية هي الاعتدال بين طرفين متناقضين، حيث لا إفراط يُنهك الروح، ولا تفريط يُفرغها من معناها لأنه حتى الفضيلة، حين تُمارس بلا ضابط، تفقد جوهرها، وتتحول النية الطيبة – رغم نقائها – إلى طريق يذيب الإنسان في غيره، حتى يصبح ظلًا لرغبات لا تنتهي.
لقد علمتنا التجارب أن الإفراط في العطاء يعلّم الناس استغلالك، والمبالغة في التسامح تفتح باب التهاون بحقك، والطيبة حين تتحول إلى تنازل دائم تفقد نقاءها، وتغدو اعتيادًا صامتًا على الانكسار. وحتى الاهتمام بالآخرين، إن تجاوز حدّه الطبيعي، يخلق اعتمادًا يُفقدهم القدرة على الوقوف وحدهم.
وهنا تتجلى حكمة الوسطية.. التوازن في الفضيلة هو الضمان الوحيد لثباتها، فكم من خِصال جميلة انقلبت على أصحابها لأنها مُورست بعاطفة بلا وعي، وبحب بلا ميزان.
الإنسان بطبيعته يسعى إلى الخير، ويرغب في أن يكون محبوبًا ومقدَّرًا ومعطاءً، لكن النية وحدها لا تكفي، فالخير حين يُفرَط فيه يصبح سيفًا ذا حدّين.. وتشير إحدى الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يمارسون العطاء باعتدال يتمتعون بصحة نفسية أفضل ممن يقدّمون أنفسهم قربانًا للآخرين، كما تؤكد دراسة بجامعة هارفارد أن من يضعون حدودًا صحية لعلاقاتهم يتعرضون لضغط نفسي أقل، ويتمتعون بروابط أكثر احترامًا واستقرارًا.
ويقول الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي، إن الإنسان الذي يفرط في التسامح أو العطاء يخلق حوله دائرة من الاتكال، ثم يُفاجأ بأنه آخر من يُقدَّر، مشيرًا إلى أن الاعتدال في المشاعر والعطاء ليس أنانية، بل حماية للنفس وصيانة لكرامتها.
وإذا كانت الحياة دائمًا ما تدفعنا نحو طرفين حادين: الغنى أو الفقر، القوة أو الضعف، العطاء أو المنع، الجرأة أو الخجل، فإن الحكمة لا تسكن الأطراف، بل تستقر في المساحة الهادئة بينهما؛ حيث تُمارس الخيارات بوعي، وتُدار المشاعر بميزان، وتُروَّض النفس دون قسوة أو انفلات.
الوسطية ليست حيادًا ولا تراخيًا، بل وعي عميق بحدود النفس واحتياجاتها هي أن تُعطي بقدر، وتُسامح بقدر، وتُحب بقدر، وتحمي ذاتك بقدر ، هي إدراك أن الله لم يخلق الأشياء عبثًا، بل جعل لكل شيء مقدارًا، ولكل معنى ميزانًا.
وقد أكدت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوسطية هي القصد والاعتدال في الدين والحياة، وأنها من خصائص الشريعة وجوهر مقاصدها ، وفي ذلك قال الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات": "الوسطية هي الأصل في الشريعة الإسلامية، وتتجسد في فهم النصوص والتعامل مع الواقع بحكمة وموازنة، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب."
الوسطية ليست انسحابًا بل شجاعة؛ أن تقول "نعم" حين ينبغي، و"لا" حين يكون الرفض حماية لروحك ، أن تمنح دون أن تُستنزف، وأن تسامح دون أن تسمح للخطأ أن يصبح عادة مستباحة.
أحيانًا يكون أجمل ما تقدمه لنفسك هو أن تقف عند الحد .. الحد الذي يحفظ كرامتك، وقتك، ومشاعرك، وصورتك أمام ذاتك قبل الآخرين.
فالاعتدال يمنحك سلامًا داخليًا لا تعرفه الأرواح المبالغة، بل الأرواح التي تدرك متى تتقدم، ومتى تتراجع، ومتى تتوقف، إنه الاتزان الذي يمنحك القدرة على أن تعيش متصالحًا مع نفسك، هادئًا في عمقك، مطمئنًا في حضورك.
الوسطية ليست مجرد خيار بين طرفين، بل اكتمال للمعنى، هي الطريق الذي يحفظ للإنسان ملامحه وكرامته وراحته، فلا يسمح لخير داخله أن يتحول عبئًا، ولا لطيبة قلبه أن تصبح منفذًا للإنهاك، أن تظل جميلًا دون أن تحترق، معطاءً دون أن تُستغل، محبًا دون أن تنكسر، ومسالمًا دون أن تُمحى حدودك.
فالاعتدال في النهاية ليس أسلوب حياة فحسب… بل هو طريقة نجاة.
-------------------------------
بقلم: سحر الببلاوي






