24 - 11 - 2025

نادية علام .. والنّقش في عقول النشء!

نادية علام .. والنّقش في عقول النشء!

تلقيتُ خبرَ وفاتها بذهولٍ عطّل حواسي، فصرتُ أنظر دون أن أرى، وأسمع بلا تمييز، وأسير على غير هدى كطائر ذُبح بسكين حاد، فانبرى يتقلب يمينا وشمالا، يقاوم الموت، ويرفرفُ بجناحيه؛ ليتأكد أنّه مازال على قيد الحياة، وأنّ قَطعَ شريان الدم برقبته مجرد أضغاث أحلام .

سريعا استجمعتُ قواي، بعدما تأكدت من صحة الخبر، وأدركت أنّها سنة الحياة، وأنّه لا خلود لأحد.  

سريعا اجتررتُ ذكريات الطفولة، فلاحَ لي كيف كان لقائي الأول بفقيدة اليوم، التي تعدُّ إحدى رائدات التعليم في قريتنا، لاسيما وأنها كانتْ بالنسبة لتلاميذها أما حانية قبل أن تكون مُعلمة من طرازٍ فريد .

ذكرني موتُ رائدةِ التعليم الابتدائي نادية أحمد البكري علام، التي جمعتْ إلي سعة العلم شدة الحلم بقولِ عَبدةَ بن الطيب في قيس بن عاصم رضي الله عنه: وما كان قيسُ هُلكُه هلكَ واحدٍ / ولكنه بنيانُ قوم تهدما .

وسببُ ديوان الحماسة الخالد في وصف ذلك الصحابي، والذي يعدُّ بيت الشعر السابق أحد أبياته أنّ هذا الصحابي أُوتي حلما، يفوق حدَّ التصور، حيث قَتلَ ابنُ أخيه ابنه، فأوتي بالقاتل مكتوفا، فأمر بفكّ قيده، وعفا عنه، وأمر لأمّ المقتول بمائة من الإبل دية لفقيدها .

والأستاذة نادية علام كانت مثالا صادقا للمعلّمة الأم، تخرجتْ على يديها أجيالٌ عديدة، ملأت الدنيا، وجابت الآفاق، فدان تلاميذها لها بالفضل في كل حركة وسكنة، في الحل أو الترحال .

كانتْ الفقيدةُ الغالية مُدرِّسة الفصل، الذي شاء الله أن تضمني جنباتُه؛ لأنعم بمعلمة كانت كنحاتٍ بارعٍ طوَّع قطعة الصلصال بين يديه؛ ليصنع منها أعظمَ تمثال .

نعم كنتُ وأقراني كقطع من الصلصال، يطغى على أخلاقنا وسلوكنا طيشُ الطفولة، ونَزق الصبا، ورعونة الرغبة المحمومة لكلّ شيء بعُد عن أيدينا، فتتقد في نفوسنا رغبةُ امتلاكه، بيد أنّ الممنوعُ مرغوب .

هنالك كانت تتجلى حكمةُ المربية نادية علام  في ترويض سلوكنا، وتقويم اعوجاجنا، إذ كنا نحرصُ على رضاها مهما كان تكليفُها مُبالغا فيه، وإن خالف أهواءنا وميولنا .

كانت واجباتُنا المدرسية مهما كثرت بمثابة مكافأة نتلذذ بها؛ لأنها صدرت عن مُربية، كانت لنا أما قبل أن تكون معلمة، فأحببناها من قلوبنا، وأضحت مشقة تكليفها لنا لذة، وحقا: حبُّك الشيء يُعمي ويصم .

في جنبات فصل نادية علام، تعلّمنا أدب الحوار، فالكلامُ لا يكون إلا بإذن، والحضورُ في مواعيدَ محددة، والانصرافُ في هدوء، فكان الفصلُ بمثابة ثكنة عسكرية تعلمنا فيها النظام في أبلغ معانيه .

كان هذا التدريبُ الأولي في فصل الفقيدة بمثابة قواعدَ صارمة استلهمناها في مراحلنا الدراسية التالية، وصدق القائل: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر .

وحديثي عن نفسي لا أقصد منه الاعتدادَ، ومدح الذات، أو شغل القارئ بما لا يعنيه، ولكني قصدتُ أن أؤكد مدى حزني على فقد الرائدة نادية علام؛ لأنّ النائحة الثكلى ليست كالنائحة المُستأجرة، لاسيما وأنّ فضلُ المُربية نادية علام عليّ لا أستطيعُ أن أوفيَ شكره .

غمرتني الفقيدةُ بحب ورعاية؛ بفضل علمها بطبائع البشر، كما لو كانت أحد علماء النفس الكبار، فقوّمتْ اعوجاج سلوكي، وسكبتْ على شعلةِ طيشي ماء الحلم، عودتني على حُبّ القراءة، وحبّبت إليّ التفوق، فكنتُ لا أقبل إلا المركز الأول، ولو كان حالي في مراحل الدراسة المتأخرة كحالي أولها؛ لكان الأمرُ مُختلفا، ولكنْ كلٌ ميسرٌ لما خُلق له .

كان لسانُ حالي في معية المُربية الجليلة نادية علام:

إذا كنتَ في أمرٍ مروم / فلا ترضى بما دون النجوم .

وهكذا كنتُ في صغري .. همة لا تعرفُ الفتور، وآمال عريضة يسبقُها العمل، وحب للنظام، جعل ما أفعلُه قمة في الإتقان والجودة .

بسبب حُبنا للفقيدة أحببنا العلم، ونافس فصلُها كلَّ فصول المدرسة، بل دخل - أقصدُ فصلها - في منافساتٍ كانت حديث القاصي والداني مع فصل نظيرتها ا. صفاء فهمي حفظها الله .

كان يُشارُ إلي تلاميذ الفقيدة، وأذكر منهم د. جمال الفقي، والمهندسة تيسير الحفناوي، وأستاذة أمل فيصل، وقبلهم - أنا - بالبنان؛ لما امتازوا به من تفوقٍ وحسن خلق، وجمال خط، والفضل بعد الله للقديرة نادية علام .

لم تختلف أخلاقُ نادية علام مع جيرانها عن أخلاقها كمعلمة ومُربية من طراز فريد، ففاق تعاونها الحدّ .. عطاءٌ في غير بُخل، نُصحٌ في غير ضجر، مواساةٌ في غير تقاعس، حرصٌ على أداء الواجب مهما تكن الظروف .

كانت نادية علام زوجة للمربي الفاضل محمد عامر أحد رواد التعليم أيضا، وعزفا سويا أعذب سيمفونية في حب العلم والتعليم، أثمرت آلاف الخريجين في قريتنا، والقرى المجاورة، والذين دانوا لهما بالفضل والعرفان .

(من غواية حكايات المدرسة وأيّام البراءة).
------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

نادية علام .. والنّقش في عقول النشء!