(مهداة إلى يحيى حسين عبد الهادي وعبد الخالق فاروق وإلى كل مسجوني الرأي والضمير).
كان لي شرف المشاركة في انتفاضة 18 و19 يناير 1977، وكان لي حظ الحبس في أعقابها. ازدانت سجون مصر بأعداد غفيرة من الطلاب والسياسيين والصحفيين والكتاب والمفكرين، وكانت تلك أول حبسة لي. تنقلت خلالها بين سجن القلعة الرهيب، ثم سجن طرة، وبعدها نقلونا إلى سجن الاستئناف، واستقر بنا المقام في سجن أبي زعبل مع مجموعة من طلاب الجامعة. رحّلونا إليه، ومنه كنا نخرج إلى جامعاتنا لأداء امتحانات نهاية العام الدراسي يونيو 1977.
لي ذكريات طويلة في كل سجن من هذه السجون، أكثرها بالطبع مع سجناء الرأي، وقليل منها مع الجنائيين من المسجونين. كوّنت مع بعضهم صداقات لا تُنسى وعلاقات لا يمكن توصيفها، أو هي بطبيعتها خارج أي تصنيف. فالسجن يمكن أن يُخرج من الإنسان أفضل حالاته أو يحط به إلى أسوئها.
وقد توثقت علاقتي مع بعض النماذج الإنسانية التي لا يمكن أن أصادفها إلا في السجون، وكانت تلك النماذج بلا شك في أفضل حالاتها الإنسانية: رغبة صادقة في البوح، وتمسك بالجانب المشرق في شخصية كل واحد منهم. وكان من بين هؤلاء نزلاء الزنزانة 40 في نهاية الطابق الذي كنا نزلاؤه في سجن الاستئناف.
الزنزانة 18 بدأت فيها مشواري في زنازين السجون، استقبلتني ليلة القبض عليَّ أول مرة. تقع أسفل السلم النازل من الدور الأول بسجن القلعة، بجوار الحمام، وأمامها مباشرة الزنزانة 40. على جدرانها خطّت أيدي المسجونين عبارات وحفرت أسماء، وكنت أخصص وقتًا من نهار السجن الطويل لتفحص جزء من المكتوب على جدرانها الثلاثة.
في الحبسة التالية بعد عام، لم يكن لسجن القلعة رهبة وصدمة الحبسة الأولى.
في سجن الاستئناف كنت أقضي في الزنزانة 40 أوقاتًا مسروقة من زمن السجن. كانت بالنسبة لي نافذة صغيرة لكنها طاقة مفتوحة على العالم. فهي الوحيدة التي "ترى الشارع"، يمكن للمتطلع من نافذتها الضيقة أن يرى جزءًا محدودًا من شارع بورسعيد. كنت أستأذن أصحابها في الجلوس ساعة من نهار إلى نافذة زنزانتهم، وكانوا يربطون بطانية قديمة على شكل قوس في حديد النافذة الضيقة، يسمونها "الطيارة" فاعتليتها مستعينًا بصديق، وجلست مقرفصًا على البطانية الميري أتطلع إلى ما يجري من حركة الناس في الشارع.
على يساري، في جلستي تلك، تزاحم خلفية مبنى مديرية أمن القاهرة المشهد وتسد الأفق أمامي. وعلى يميني الجانب الأيمن لمبنى محكمة باب الخلق، وما يزال في فنائها الخلفي بعض الحركة الخفيفة. خُيّل إليّ أنني رأيت بعض أصدقائي من المحامين الشبان يجري متعجلاً نحو باب ضيق في حوش المحكمة الجانبي.
في جلستي تلك التي أحاول فيها أن أُخرج روحي من السجن، كان المشهد أمامي ضيقًا، بضعة أمتار مقتطعة من شارع بورسعيد. وكنت أترك لخيالي أن يرسم بقية الصورة: هذا الشاب الذي يمسك بيد فتاته تحملهما أحلام وردية عن مستقبل حياتهما معًا، وهذا الفتى اليافع يجر عربة يدٍ عليها حمولة كبيرة، يقف برهة ينظر حوله لعله يجد مساعدة من أحد المارة، ثم يعاود جر حمولته وحده بلا معين. وشيخ عجوز تنحني قامته على عصا يتوكأ عليها، يمر أمامي ببطء حتى يختفي. وعربات من كافة الأنواع والماركات تمرق في الطريق، إما سريعًا في أيام الجمع أو الإجازات، أو تمشي كالسلحفاة في ساعات الذروة. وفي كل الأوقات كان هناك عساكر وضباط لا يغيبون عن المشهد، منهم من يتوجهون إلى مبنى مديرية الأمن ومنهم من يخرجون منه.
في مرة من تلك الجلسات القليلة على البطانية المربوطة بنافذة الزنزانة 40 بسجن الاستئناف العمومي، عزمت أن أخصص كل جهدي وجهادي في السنين المقبلة بعد تخرجي الوشيك من كلية الحقوق للدفاع عن سجناء الرأي.
حين قُيد اسمي بنقابة المحامين وزيّنت بطاقة المحاماة محفظتي، لم أفوّت تحقيقًا أمام نيابة أمن الدولة (كان مقرها وقتها في شارع زكي بوسط القاهرة) يُحقق فيه مع صاحب رأي. أذهب في صحبة زملاء أعزاء من المحامين الشبان وقتها، أو في معية محامٍ كبير ممن شاء حظي أن أتعرف على عدد كبير منهم في زمن قياسي.
في تلك الأثناء كنت قد انضممت إلى "لجنة الدفاع عن الحريات" بنقابة المحامين، وكانت تضم العديد من شبان المهنة، فصارت هي اللجنة الأنشط في النقابة. وتعرفت من خلالها على عدد كبير من شوامخ المحاماة وشبانها الذين صاروا الآن شوامخها وفخرها.
لكن المحاماة نفسها لم ترق لي، فتركتها إلى الصحافة. وكان آخر مرة استخدمت فيها بطاقة المحاماة في قضية "ثورة مصر" بعد أن صرت صحافيًا مقيدًا تحت التمرين في نقابة الصحفيين. وبواسطة بطاقة المحاماة استطعت أن أحصل على أوراق القضية، وتمكنت من حضور جلسات المحاكمة التي جرت وقائعها في أحد المباني بمعرض القاهرة الدولي بأول مدينة نصر.
بدأت النشر مبكرًا عن القضية من خلال التحقيقات والجلسات في صحيفة "صوت العرب" (وكانت تصدر يوم الأحد من كل أسبوع)، وسبقت وقتها صحيفة "الأهالي" التي كانت أقدم منها وتقف على رأس صحف المعارضة وأكثرها توزيعًا وتأثيرًا (وكانت تصدر يوم الأربعاء). وكان تعليق الأستاذ صلاح عيسى مدير تحريرها وقتها: "محمد حماد جاب فينا جون"، حسبما روى لي أستاذنا حسين عبد الرازق رئيس تحرير الأهالي.
من أول يوم قُذفت فيه إلى جوف زنزانة 18 في سجن القلعة وحتى يومنا هذا، كان إحساسي بالمسجونين ظلمًا يقبض روحي. وحتى اليوم، كلما طالعت أخبار السجون وأوضاع مسجوني الرأي، تذكرت جلستي تلك (منذ 48 سنة) إلى نافذة الزنزانة 40 بسجن الاستئناف.
واليوم أتطلع بحزن عميق وأسف مؤلم إلى استمرار مسيرة المظالم التي تمتلئ بها سجون مصر.
--------------------------
بقلم: محمد حماد






