22 - 11 - 2025

الأمومة بين الشهد والحنظل: كيف تُصنع النفوس وتتشكل الأجيال؟

الأمومة بين الشهد والحنظل: كيف تُصنع النفوس وتتشكل الأجيال؟

تحتل الأم موقعًا مركزيًا في تشكيل البناء النفسي للإنسان، فهي الحضن الأول الذي يتكوَّن داخله الشعور بالأمان، والنافذة الأولى التي يرى الطفل من خلالها ذاته والآخر والعالم. ومن هذا الدور الجوهري، نشأت حقيقة أن الأمومة تجمع بين الشهد والحنظل؛ بين قدرة فائقة على إنتاج الأمل والاتزان والثقة، وقدرة أخرى - حين تتراكم الضغوط وتغيب الرعاية - على نقل الجراح إلى الأبناء لتتخذ شكل مخاوف وقلق واضطرابات تمتد إلى مستقبلهم.

وتشير الدراسات النفسية إلى أن السنوات الأولى من حياة الطفل هي المرحلة الأكثر حساسية في تكوين المخططات المعرفية التي تحدد تصوراته عن ذاته وعلاقاته وحياته. وفي تلك المرحلة، تقوم الأم بالدور الأهم في ترسيخ هذه التصورات؛ فهي التي تمنح الطفل شعورًا بالأمان أو التهديد، وتعزز ثقته بنفسه أو تتركه يواجه شكوكه، وتفتح له أبواب المستقبل أو تُغلقها في وجهه دون قصد. ولذلك، فإن استقرار الأم نفسيًا ينعكس بشكل مباشر على توازن الطفل، بينما تعرّضها للضغوط النفسية أو الاجتماعية القاسية - كالترمل المبكر أو الطلاق دون دعم أو المرض أو العنف أو الوحدة - يجعل الأبناء يتلقون تلك الجراح وكأنها جزء من تكوينهم العاطفي والعقلي.

وعبر التاريخ، أثبتت وقائع كثيرة أن وراء كل مبدع أو قائد عظيم أمًّا منحت أبناءها مساحة آمنة للنمو. فالإمام الشافعي كثيرًا ما تحدّث عن دور أمه في تنشئته بعد وفاة والده، وكيف حملت مسؤوليته وحدها حتى علّمته ودفعت به إلى طلب العلم. وأم طه حسين كانت النموذج الملهم التي غرست في ابنها رغبة التفوق وتحويل الإعاقة إلى قوة. وأم أحمد زويل كانت تقول له دائمًا: “المدرسة هي طريقك للعالم”، وكان أثرها النفسي حاضرًا في حياته العلمية. بل إن قادة مثل نابليون بونابرت وأبراهام لينكولن وملوكًا ومصلحين تحدثوا كثيرًا عن أثر أم قوية وهادئة ومستقرة صَنعت فيهم الثقة والطموح والمبادرة.

وفي المقابل، فإن كثيرًا من الشخصيات التي عانت لاحقًا من اضطرابات في علاقتها بذاتها أو بالآخرين، جاءت من بيئات أمهات مرهقات نفسيًا، أو محاصرات بظروف قاسية لم يجدن من يساندهن. وهؤلاء الأبناء غالبًا ما يتطور لديهم خوف مزمن من العلاقات، أو حساسية مفرطة للرفض، أو شعور دائم بعدم الأمان، ليس بسبب تقصير الأم، ولكن بسبب الضغط الواقع عليها. فالأم التي تعيش مشاعر القلق الحاد أو العزلة أو العنف أو الحرمان العاطفي، قد تنقل - دون قصد - تلك الاهتزازات إلى أطفالها. وهذه الحالات نراها يوميًا في العيادات النفسية: أشخاص يعانون اضطرابات شخصية أو قلقًا اجتماعيًا أو اكتئابًا متكرّرًا نتيجة تنشئة جريحة أكثر من كونها خيارًا شخصيًا.

هنا يتحقق ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عندما قال: “الآخر هو الجحيم”، وهي عبارة تجسد حالة من تربّى على مخططات معرفية غير تكيفية، تجعله يرى العالم باعتباره مصدرًا للتهديد، لا ساحة للتشارك والنمو.

ويتعمّق هذا الخلل في ظل ثقافة اجتماعية شائعة تصنّف الناس إلى “كويس” و“وحش”، في تجاهل للبعد النفسي للسلوك الإنساني. من منظور علم النفس، لا يوجد إنسان “وحش”، بل يوجد إنسان غير سوي يعاني من آثار تنشئة مختلة لم يكن له يد فيها. هؤلاء أوصى القرآن الكريم بالتعامل معهم بالرفق والتغافل والصبر، لأنهم ليسوا مصدرًا للشر بقدر ما هم ضحايا لظروفهم، وتعاستهم الخاصة تجعلهم يُتعبون من حولهم دون قصد.

ومع تراكم الضغوط على الأسرة، خصوصًا تلك التي تُترك فيها الأم دون دعم، يدفع المجتمع ثمنًا باهظًا. فغياب الرعاية النفسية داخل البيت قد يساهم في إنتاج أجيال تحمل اضطرابات في الشخصية، أو صعوبات في الثقة بالآخرين، أو هشاشة في مواجهة الحياة. وهكذا تنتقل الأزمة من مستوى الأسرة الصغيرة إلى مستوى المجتمع بأسره، فنجد أنفسنا أمام سلسلة ممتدة من المشكلات النفسية والاجتماعية التي كان يمكن منعها لو وُجدت الحاضنة الداعمة للأم منذ البداية.

إن الاحتياج اليوم لم يعد مجرد دعم عاطفي للأمهات، بل أصبح مشروعًا وطنيًا متكاملًا يقوم على تفعيل الخدمة النفسية الإرشادية والوقائية في الوزارات والمؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية، وتوفير مراكز رعاية متخصصة تُعين الأم التي تمر بظروف قهرية، وتخفف عنها، وتمنع انتقال الألم إلى أطفالها. كما يتطلب الأمر نشر ثقافة جديدة تنظر إلى مشكلات السلوك باعتبارها ظلالًا لجراح نفسية لا تُعالج بالإدانة، بل بالفهم والتدخل المهني.

وعندما ننظر بعمق إلى جذور المشكلة، ندرك أن إصلاح المجتمع يبدأ من نقطة واحدة: حماية الأم نفسيًا. فالأم التي تحظى بالدعم والقوة تنتج أبناءً أسوياء قادرين على الإبداع والعطاء، أما الأم التي تُترك للضغوط دون حماية، فغالبًا ما تخرج للمجتمع أبناءً يحملون آثار الجرح دون أن يكون لهم ذنب. إن الاستثمار الحقيقي في المستقبل يبدأ من تمكين الأم، ليس لأنها نصف المجتمع فحسب، بل لأنها الأساس الذي يُقام عليه كل المجتمع.
-------------------------------------------
بقلم: د. عبد المريد قاسم العبدلى
* أستاذ علم النفس الاجتماعى والشخصية بجامعتي
حلوان – والامام محمد بن سعود الاسلامية


مقالات اخرى للكاتب

الأمومة بين الشهد والحنظل: كيف تُصنع النفوس وتتشكل الأجيال؟