لم يكن مقبولا بحال أن أكتبَ عن أستاذنا الخلوق محمد جودة قنديل، وأتجاهلُ الحديث عن رفيق دربه وتوأم روحه نافذةِ إطلالنا على نسيم اللغة العربية، وأريجها الفوّاح، الأستاذ أبو المكارم أباظة، سليلِ العائلة الأباظية بالشرقية، والتي ينتمي إليها كثيرٌ من رجال الفكر والأدب والفن .
كانت العلاقةُ بين أبو المكارم، ومحمد جودة وثيقةَ الصلة، فلا يُرى أحدهما إلا بصحبة الآخر، ولا يُدعَى واحدٌ لحفلٍ أو لقاء، فرحا كان أو ترحا إلا وأخوه في يده، فجاز أن نقولَ : كان الواحد منهما بالنسبة لأخيه بمثابة الظل للعود أو الروحِ للجسد .
عَشِقتُ اللغة العربية منذ نعومة أظفاري، وأتقنتُ التحدثَ بها، فقلما يلحن فيها لساني، أو يشذَّ عن طريقها بياني، وإن كان ثمة فضلٌ، فبعد الله وكتّاب سيدنا، لأستاذي أبو المكارم أباظة - وطبعا رفعُ أبو المكارم على الحكاية - رغم أنها في موضع جر، ولكن الجرَّ مع أستاذي لا يليق، فحقُّه الرفعُ علي الرؤوس؛ لكريم فضله، وفيض عطائه، وحقا: (من علّمني حرفا صرتُ له عبدا) .
ولله درُّ شوقي:
قم للمعلم وفه التبجيلا / كاد المعلمُ أن يكون رسولا .
رغم صعوبةِ علم النحو إلا أنّ جهودَ أبو المكارم في تطويعه وكبح جماحه، صنعتْ بيننا وبينه ألفة وحميمية كيف لا ؟! وقد درّبنا على إعرابِ النصوص النثرية كاملة، فكانت حصّةُ اللغة العربية ورشةً نتعلم فيها فنون العربية جميعها من بلاغة وشعر، إلى إنشاء وخطابة، إلقاء وصرف، إضافة إلي سيد اللغة، الذي هو منها بمثابة الدرة من التاج علم النحو .
درَّبنا أبو المكارم على أن نكونَ أساتذة منذ الصغر، فكان يُلزِم كلّ واحدٍ من الطلاب - طبعا والطالبات، وذكرتُ المذكرَ علي سبيل التغليب - بتحضير الدرس، وشرحه تماما كما لو كان هو مدرسَ الحصة .
كانت قضايا النحو وإعراب الكلمات والجمل هي وقودَ معاركنا ونكاتنا، طرائفنا وأحاجينا، وكان صخبُ وجلبةُ اعتراض بعضنا علي بعض، أعذب سيمفونية، نتلذذُ بسماعها، وكان إعلانُ أبو المكارم أباظة اسم الفريق الفائز، هو النصر المؤزر الذي تشرئب إليه الأعناق، وترنو إليه الأنظار بلحاظها.
درّبنا أبو المكارم على ألا ننشغل بالإعراب، وننسى المعنى بأمثلة منها: صفارُ البيض أبيضٌ أم أبيضَ؟
فيُسرع من لا يُعمِل عقلَه في المعنى بقول: أبيضٌ علي اعتبار أنّها خبرٌ للمبتدأ صفار، فيقول أبو المكارم لا يمكن لصفارِ البيض أن يكون أبيض بل هو أصفرٌ، فتمتلئ قاعةُ الدرس بالقهقهة والضحك .
وكثيرا ما كان يُخطئ آخرون في إعراب كلمة الكوب في جملة: فِ الكوب ماء، فيظن أن الفاء حرف جر، فيُعرب الكوبَ اسما مجرورا بفي وعلامة جره الكسرة، فيرد أستاذنا: ف فعل أمر بمعني وفِّ من الاستوفاء، والكوبَ مفعول به والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، وماء تمييز منصوب بالفتحة .
كان أبو المكارم بجانب سعة العلم، والتضلع في علوم اللغة العربية شديد الظرف، مُحبا للطرفة، أذكر أنّ زميلا لنا، كان بينه وبين العربية شقاقٌ وخصومة، رغم تفوقه في المواد العلمية؛ ولأنّه ضعيفُ في اللغة العربية، آثر الصمت دائما في حصة أستاذنا أبو المكارم؛ ليُغلق علي نفسه بابا لا يمكنه سدُّه، عملا بالمثل: (الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح) .
جلس زميلنا يُوهِمُ الأستاذ أبو المكارم بإنصاته له عن طريق هزّ رأسه، كلما تلاقت عيناهما، فطنتُ للموقف، فهمستُ في أذن ذلك الزميل بكلمة؛ لأجرَّه للحديث معي أثناء شرح أستاذنا؛ ليلمحه ويُوسعه تقريعا، تضج له قاعة الدرس بالضحك، انساق المسكينُ لمكيدتي الشيطانية، فلمحه أبو المكارم، فاحمرّ على الفور وجهه، وطلب منا الوقوف معا مُستفهما عن سبب انشغالنا عنه بحديث جانبي، فأجبتُ في ثبات المتمكن أمكن - مُستندا إلي مكانتي في قلبه لتمكني من مادته - بأنّ زميلي يقول: إن أستاذ أبو المكارم ضليعٌ في اللغة العربية كالأخفش وابن جني وسيبويه، فشدّ أبو المكارم ياقة (بدلته) السفاري، وردّ مُعجبا ومختالا: أشكركما أي نعم .. أي نعم !
ضجّ الفصلُ بالضحك، ونجَّت إجابتي زميلي - الذي وقف ترتعد فرائصه ولا تقوى رجلُه على حمله - من ورطة أوقعتُه فيها، وأخرجته منها كالشعرة من العجينة.
أبو المكارم أباظة نموذجٌ مُشرف للمُعلم الظريف، والمدرس المُتمكن، والإداري الفاهم، وهو ما جعله في قريتنا واحدًا من جيل العمالقة .. حفظَ الله الرجل وأدام فضله .
(من غِواية السيرة الذاتية وحكايات المدرسة).
---------------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام






