21 - 11 - 2025

"هات ما عندك يا فتى".. الجملة التي فجّرت أخطر صدام كنسي وتمرير أجندة نسوية

لم تكن الكنيسة القبطية في حاجة إلى أزمة جديدة تُضاف إلى سجلّ اللحظات المربِكة التي شهدتها السنوات الأخيرة. لكن ما حدث مؤخرًا بين إثنين من الأساقفة الأجلاء، الأنبا بولس أسقف كندا والأنبا أغاثون باعتباره أحد مؤسسين حماة الإيمان، والتراشق غير المعتاد الذي خرج للعلن وضع الجميع أمام سؤال صادم: كيف تحوّل خطأ طقسي بسيط إلى معركة تتداولها مواقع التواصل، ويشاهدها الشعب كأنها مسرحية مفتوحة؟، فمن خطأ طقسي إلى مادة للاشتعال.

كانت البداية زلّة طقسية لأحد الأساقفة أثناء الخدمة عند رسامه شماسات جدد، مع تعديلات غير مفسرة ودخيله علي الطقس الأصلي، فهو ليس مجرد كلمات تُقال بل خبرة متراكمة تستند إلى الهدوء والاتزان والتركيز، لكن بدلاً من الاحتواء الهادئ والإصلاح الأخوي، يفترض في أي مؤسسة روحية، تحوّل الأمر إلى فرصة للانتقاد الحاد، فكان الخطأ في استخدام لفظ “شماسة” وهو مصطلح كهنوتي محدد ومحسوم تاريخيًا وقانونيًا ولا يجوز إطلاقه على أي خدمة لا تحمل معنى الرسامة العلني، ودون أي طقس يمنح سلطانًا ليتورجيًا.

ومع انتشار تسريب مجهول وفيه يُسمع الأنبا بولس وهو يقول لآخر:“هات ما عندك يا فتى”، في إشارة يعتقد أنها موجهه للأنبا أغاثون، فلم يكن مجرد جملة عابرة، لقد حملت نبرة تحدٍ، استعلاء، وتجريح واضح أمام الكهنة والخدام، وانتقلت بسرعة البرق إلى الجمهور، وسواء كانت الجملة عفوية أو مقصودة، فقد قدّمت للشعب صورة غير مسبوقة، أساقفة يتعاملون مع بعضهم كخصوم، لا كآباء.

والأخطر من الجملة نفسها كان قرار من صوّر وهرّب الفيديو إلى العلن، هذه ليست مجرد “سطحية إعلامية”، بل ضرب مباشر لقدسية الكهنوت، ونقل ما يفترض أنه داخل البيت الكنسي إلى ساحة السوشيال ميديا المفتوحة، وبدلاً من معالجة الخطأ بهدوء، دخلت أطراف مختلفة على الخط، من رأى في الخطأ الطقسي دليلاً على عدم أهلية الأسقف، ومن اعتبر ردّ الأسقف الآخر “إهانة رسمية”، ومن استخدم الحادثة لتصفية حسابات كنسية قديمة موجهه لقداسة البابا تواضروس شخصيا، وهكذا خرجت الأمور من نطاق الطقس إلى نطاق الاستقطاب وسط غياب ضبط النفس، وبينما كانت السوشيال ميديا تضج بالفيديو والتحليلات والتأويلات، كان السؤال الأكثر تداولاً: أين المجمع المقدس؟، وفي الأوساط الكنسيه التي لا تغضب من الخطأ بقدر ما تغضب من غياب موقف واضح، وما دام المجمع صامتًا، فستظل الأزمة مفتوحة لكل قراءة وتفسير وشائعة.

فإن التسريب لم يضرّ الأساقفة وحدهم، بل أضرّ بثقة الشعب كله، لأن شعب الكنيسة اليوم يراقب، أسقف يخطئ طقسيًا ويرد عليه بلهجة غير لائقة، ثم يتسرب المشهد كما لو كان مادة للفضائح الإعلامية، في مشهد عبثي كان يمكن تجنّبه، والشعب يتساءل: أين الوقار الذي تربّينا عليه؟ أين القدوة؟ وأين الهدوء الذي يليق بآباء الكنيسة؟، فنحن بلا شك نفتقر الي الصرامة الانضباطية التي كانت تمنع أي مشهد من الخروج خارج الغرفة المغلقة.

وكان بيان نيافة الأنبا بولس بالاعتذار خطوة لا يمكن الهروب منها، لأن ما حدث لامس خطًا أحمر واضحًا في قوانين الكنيسة القبطية، وهو حدود الطقس، ووحدة الممارسات، والتزام الأسقف بقرارات المجمع، فإن تكليف الفتيات بخدمة” أو “تشجيع رعوي”، ليس رسامة على الإطلاق.

وكان يمكن للخطأ الطقسي أن يُعالج في غرفة مغلقة، ويُغلق، وللمجمع أن يتدخل سريعًا ويمنع تضخم الأزمة، لكن ترك الأمور بلا ضابط، أو تصحيح، جعل من الحادثة شرارة أزمة كنسية مكتملة الأركان. فما حدث ليس مجرد “مشادة بين أساقفة”، بل جرس إنذار بهيبة الكهنوت، وأن الطقس لا يُستخدم ولا يُستغل كسلاح، حتي أصبحت السوشال ميديا جزءا من عرض المشكلة، وأي تجاوز لن يبقى سرًا، وأن الشعب لم يعد يتقبل أن يبقى طرفًا صامتًا، فلم يلح في الآفق موقف رسمي يعيد ترتيب المشهد قبل أن يصبح كل خلاف بين الأساقفة مادة تُهرّب وتُستغل وتُستهلك على الملأ.

وفجر هذا المشهد أزمة مستترة من نوع آخر، فحينما يتردد من المفرطين في الإيمان أنه لا شموسية إلا للرجال لإخراس صوت النساء في الكنيسة، فإنه عنوان دعائي يحمّل المسألة بُعدًا صراعيًا بين “رجال ونساء”، رغم أن القضية أصلًا لاهوتية – رسولية مرتبطة بطقس الهيكل وليس بالنوع الاجتماعي، فالكنيسة القبطية لم تبنِ طقسها على “ذكورية”، بل على نظام خدمة رسولي متسلسل من الرسل والشمامسة السبعة، وكلهم مرتبطون بخدمة المذبح. فإن تحويل الموضوع إلى “قمع نساء” هو أول خطوة في تشويه القضية.

ومع تكرار محاولات تصوير الشموسية كأنها قرار إجتماعي ذكوري، فإن من يحصرون الشموسية في الرجال كاجتهاد بشري ذكوري، يرتكبون خطأ جسيم لأن الشموسية في الكنيسة القبطية درجة كهنوتية فرعية تخدم داخل الهيكل وتدخل تحت سلطان الكاهن والأسقف، ومنذ القرن الأول حتى اليوم، لم تُرسم شماسة هيكلية في أي كنيسة رسولية مثل الأرثوذكسية والكاثوليكية والسريانية والأرمنية.

إذن القضية طقسية رسولية وليست “اجتماعية جندرية”.

و لعل التدليس بإستخدام فيبي ولفظ دياكونوس، يعد أشهر تلاعب يُستخدم في هذا النوع من الطرح، هو الإيحاء بأن “فيبي” كانت شماسة طقسية.

اللفظ اليوناني “diakonos” يعني ببساطة خادمة، معاونة، واستُخدم عن أشخاص كثيرين دون رسامة كهنوتية، فلا يوجد نص كتابي أو تاريخي واحد يشير إلى: وضع اليد عليها أو دخولها الهيكل أو تراتيل ليتورجية أو رتبة كهنوتية، إذًا الاستشهاد بها في سياق الشموسية الليتورجية يعد تحريفا منهجيا.

أما عن استدعاء المتشدقين “أولمبياس” يعد أيضا خارج سياق الكنيسة القبطية، وكأن الكنيسة القبطية تعترف برسامتها الشماسية، وهذا غير صحيح، فهذه ممارسة بيزنطية محلية، والكنيسة القبطية لم تتسلمها، ولا تُعد ضمن التسليم الرسولي في كنيستنا.

ذكرها لإيهام القارئ بأن “العالم كله كان بيرسم شماسات” نوع من التضليل عبر السياق المبتور.

ويعد اقتطاع الدسقولية بطريقة انتقائية هو أشهر أنواع تضليل التعاليم المنتشرة، فالتعامل مع الدسقولية كأنها “مرجع طقسي مطلق” هو خطأ فادح، لأن الدسقولية ليست مصدرًا عقائديًا ولا طقسيًا ولا معمولا بها في كل الكنائس الأرثوذكسية، وتحتوي أجزاء ذات طابع إجتماعي تاريخي، كما أن “شماسات الدسقولية” لم تكن شماسات هيكل، بل خدمات نسائية لرعاية النساء أثناء المعمودية وزيارات البيوت والأرامل.

وتحويل وظيفة رعوية اجتماعية إلى “رتبة كهنوتية” هو تزوير تاريخي، أما عن استخدام الكنائس السريانية كحجة ليعطي الانطباع بأن “العالم كله سبَق الأقباط”، لكن الحقيقة أن الشماسات تعملن بخدمة إجتماعية أيضا وليست رتبة هيكلية ولا تدخل الهيكل ولا تُعتبر “شموسية ليتورجية” إذن الإستشهاد بها غير علمي، فالهجوم غير المباشر على الراحل البابا شنودة الثالث، بأنه كان “متأثرًا باليهودية” ويعتبر المرأة “نجسة” وأقصاها أربعين عامًا، كلمات جوفاء، وجميعها افتراءات متخفية في شكل تحليل، فمن المعروف أنه البابا شنودة لم يغيّر طقسًا رسوليًا، بل حافظ على نظام كنسي مستقر منذ القرون الأولى، ولا يوجد في العقيدة القبطية مسمي “نجاسة المرأة”، واقتطاع جملة من عظة قديمة لتشويه تعليم كامل هو سوء نية واضح، ويبدو أنهم تناسوا أن كان لدي قداسته قاعدتان واضحتان، “كرامة الأسقف خط أحمر ولكن انضباطه خط أحمر أكبر، وممنوع تناقَل الخلافات إلى الشعب."

فعصر البابا شنودة كانت فيه حساسية خاصة تجاه أي تغيير طقسي ليس بدافع قمع المرأة، بل بدافع حماية وحدة الطقس ومنع الفوضى في مواجهة تيارات تجديد راديكالية وضغط بروتستانتي وتدين شعبي. ولم تتبنَّ الكنيسة القبطية موقفًا محافظًا من فراغ، بل بحكم ظروف روحية واجتماعية تراكمت عبر القرن العشرين. فظهور تيارات تجديد راديكالية، ومعها ضغط “التدين الشعبي” داخل المجتمع المصري، دفع الكنيسة إلى تَجْميد الوضع الطقسي القائم لا لأنها “تجهّل” الشعب أو “تضطهد المرأة”، بل لأنها كانت تخشى أن أي تغيير بسيط قد يفتح الباب لفوضى طقسية يصعب إغلاقها لاحقًا.

فإن المسألة هي وحدة الطقس، وضبط الخدمة، ومنع تسلل ممارسات غير مدروسة تحت دعوى تجديد أو تحديث.

وفي المقابل، هناك أصوات تحاول فتح الباب على مصراعيه تحت عباءة “أجندات نسوية غربيه” تُحمّل الكنيسة ما لم تقله أو تفعله، بينما الكنيسة القبطية في جوهرها تقليدية، وترى أن الحفاظ على ما استلمته من الآباء هو الضمانة الأولى ضد الانقسام.

وقد يفسر أيضًا التوتر الحاصل مع بعض الأساقفة في المهجر، حيث يتحركون أحيانًا بهامش حرية أكبر بحكم اختلاف البيئة، فيصطدمون أحيانًا مع الحساسية التاريخية الموجودة في مصر.

وفي عهد قداسته رسمت مكرسات بدرجة "أغنسطس" في أغلب الإيبارشيات كانت تضم ما بين 5–15 مكرسة، في 27 إيبارشية تقريبا بعصره وبإحصائيه تقديريه من 150–300 مكرسة، وعدد يصل الي 1000 مكرسه بالمهجر، ولذلك يجب التفرقه بين ثلاثة مستويات لفهم المسألة، أهمها الواقع الطقسي الحاضر، والتاريخ القديم والظروف التي تشكّل عليها الوعي الكنسي الحديث.

فإن محاولات التيار اللاطائفي البائسة شيطنة التيار التقليدي وتصويره كقوة قمع، فاللغة المستخدمة عادةً ما تكشف الانحياز الفكري، هذه ليست لغة لاهوتية ولا تاريخية، بل لغة أدلجة يسارية – نسوية تحاول فرض قراءة مجتمعية على موضوع ليتورجي، مع  تجاهل الحقائق وتضخيم الحادثة ومحاولة تجسيد خطأ الأنبا بولس كأنه “معركة نسوية تاريخية”، بينما الواقع، أن نيافته بنفسه اعتذر وقال: “الكلمة خانتني”، والمجمع لم يعاقبه باعتباره خطأ لفظي طقسي وليس “قمع نساء”، حتي لو أعقب المشهد تسريب مقطع الفيديو مجتزأ يبدو فيه أنه غير مقتنع بالاعتذار الذي جاء بضغط من قداسه البابا تواضروس، فلم تحدث أزمة كنسية علي النحو الظاهري بل تصاعدت حدة التراشق بين التيارات المختلفة، ويمكن اعتباره مجرد تصحيح طقسي طبيعي، لكن من يدسون السم في العسل يحتاجون الي قصة للانقضاض علي الكنيسة، فيحوّلون حادثة بسيطة إلى أزمة مصطنعة، لذلك لن تنجح تسييس قضية طقسية وتحويل خلاف ليتورجي إلى صراع “رجال ضد نساء” أو توظيف نصوص ناقصة مع تحميل الكنيسة القبطية ما لم تقله، فإن الاتهام بالذكورية، والنجاسة والإقصاء دون دليل عقيدي أو تاريخي، فهو هجوم أيديولوجي متنكر اللغة والطرح يكشفان أن الهدف هو ضرب التعليم التقليدي، لا البحث في الطقس مع غياب المنهج العلمي والانتقاء والتضخيم وخلط السياقات، وليس دراسة لاهوتية أو طقسية حقيقية.
وجاء بيان اللجنة الدائمة للمجمع المقدس ليحسم الأمر نهائيًا؛ فالتأكيد على أن ما جرى «يُعتَبر كأنه لم يكن» هو صياغة كنسية مهذبة تعادل في مضمونها إلغاءً كاملًا للخطوة، وتصويبًا رسميًا لما حدث. كما أن حضور نيافة الأنبا بولس أمام اللجنة، وطلبه أخذ فترة خلوة بدير البرموس خلال صوم الميلاد، يعكس بوضوح أن الكنيسة تتعامل مع الواقعة بوصفها تجاوزًا طقسيًا يستلزم تهدئة وإعادة ضبط للمسار الكهنوتي، حتى وإن لم يُعلن ذلك كعقوبة مباشرة. فالمجمع أراد توصيل رسالة شديدة الدقة: الطقس القبطي ليس مجالًا لاجتهادات فردية، وأي تغيير - ولو بدا بسيطًا - لا يُقبل إلا بإجماع مجمعي واضح؛ حفاظًا على وحدة الكنيسة ومنعًا لخلق سابقة يمكن أن تُستغل لاحقًا لتبرير خطوات أبعد من مجرد «مباركة للخدمة». ولهذا جاء البيان حاسمًا في جوهره، هادئًا في صياغته، لكنه يحمل دلالة لا تخطئها عين: ما تم غير معتمد، والكنيسة استعادت الانضباط الطقسي سريعًا قبل أن تتسع الدائرة وتتحول إلى صدام أكبر في المهجر.
-------------------------------
بقلم: جورجيت شرقاوي


مقالات اخرى للكاتب