- سجون المعارضين بالكلمة والرأي حفلات تعذيب.. وزنازين القتلة واللصوص والمفسدين خمس نجوم !
- في عصر عبد الناصر قتل "شهدي عطية"، وكسر "لويس عوض" الحجارة وسلك البالوعات في السجن.. والسادات تعمد تجريح وسب كل معارضيه من هيكل للباشا فؤاد سراج الدين!
- سر السمان والوردة الحمراء التي كانت ترسلها زوجة هيكل إليه في السجن ويتجمع حول مائدتها أقطاب زنزانته في زمن السادات
- الرئيس المؤمن وصف الشيخ المحلاوي بأنه "مرمي في الزنزانة زي الكلب" وتعَمُدْ منع الدواء عن عبد العظيم أبو العطا أدى لوفاته !
- السنهوري الفقيه الدستوري ضرب ضربا مبرحا في حديقة مجلس الدولة عام ١٩٥٤ والمناضل شهدي عطية الشافعي يموت إثر حفلة تعذيب في سجن أبو زعبل عام ١٩٦٠!
- صلاح عيسى المخضرم في الاعتقالات خشي الاعتقال واضطرّ للهرب لأول مرة بعد احداث انتفاضة الخبز عام ٧٧.وسلم نفسه بعد ٩ شهور عند بدء المحاكمة!
- هل كان عبد الحليم قنديل يستحق ماجرى له عندما كتب يامبارك إني اتقيؤك؟ وهل خالد سعيد استحقّ الضرب حتى الموت وهل استحقّ عماد الكبير " الخوزقة".. ورضا هلال كيف محيت آثاره؟
،،
قبل أن تقرأوا:
مازن - إبني الأصغر - يحتاج إلى تحفيزي الدائم للاستذكار، كونه في الشهادة الإعدادية. طريقته في "المذاكرة" تختلف عن طريقتي، ضبطت نفسي متلبسًا بإجراء مقارنة بين نجلي ذو الأربعة عشر ربيعًا، وبيني ككهل في الخامسة والستين خريفًا. قلت لمازن: لا اكتب قبل أن أبذل جهدًا وانخراطًا في القراءة والبحث ومحاورة الناس. على ضفافهم أختبر صواب فكرتي، ورتق ثقوبها المنكشفة بالنقاش، فأقرأ وأفكر وأستلهم وأدون ملاحظات وأسجل معلومات. حينما أردت أن أبين له أهمية كل ذلك لكاتب - ولو كان يكتب مجانًا وليس ملتزمًا بعمل أو جهد إلا ضميريًا وإنسانيًا - وجدتني اشرح له فكرة هذا المقال .."احبسونا .. أو اعتقلونا بس بشروطنا"! على طاولتي ٦ كتب في الموضوع، ونوت بوك مكتوب في صفحاتها كثير من النقاط…
اطلعته على مسودة الأفكار وحدثته عن شخصيات أستعين بها وبكتاباتها، مثل المؤرخ الفذ رؤوف عباس، والمبدع والكاتب والمفكر لويس عوض، والكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، وسيدة إثارة العقل والجدال الفكري نوال السعداوي، والمستشار كاشف الاخوان ثروت الخرباوي، و..الأديب العبقري وول سوينكا. لم أكن أتخيل ان حديثي عن السجن وعن هؤلاء المبدعين ، الذين يجهلهم "مازن" كما أغلب أبناء جيله - وأجيال اخري - سوف يجذبه إلى حد الإنصات والترقب، كما لو كنت أحكي له حكايات ألف وليلة، إلى حد أنه كاد يستلقي على سريري. انتَبَه للمقارنة ، ولسانه حاله يقول: هذا أبي ليس مطلوبا منه أي شيء في تقاعده، لكنه مازال على نفس وتيرة أدائه في شبابه الباكر، تماما كما لو أنه يذهب إلى جريدته كل يوم، "ويعمل صحفيًا ٢٤ساعة في اليوم" (التعبير لمصطفي أمين)!,,
***
كان الرئيس جمال عبد الناصر - وأنا أحبه وأقدره خلافًا لجميع الحكام - قاسيًا جدًا، عندما سمح لجنرالاته بحبس المفكر الكبير الدكتور لويس عوض في معتقل الواحات، ليقضي عقوبة أشغاله الشاقة في تكسير الصخور! سجنه كما سجن رموز الماركسيين في مصر (رغم ذلك اتهمه خصومه بالالحاد!) وفي السجن قُتِلَ شهدي عطية الشافعي. تعرض آخرون في السجن للتعذيب، لكن تبقى حكاية لويس عوض لها العجب، فأسوأ من معاقبة سجانيه كان عقابه لنفسه! استلقى مفكرنا على الأرض، وقام بتسليك بكابورت السجن! وفقا لرواية سخريتها لاذعة للكاتب الكبير محمود السعدني، رواها في كتابه "زمش" - وهي اختصار لكلمات "زي مانت شايف" - وفيها أن أحد باتشويشات السجن دخل العنبر فجأة، وسأل بصوت جهوري مخيف "مين بيعرف يقرأ ويكتب هنا"؟! يحدث مثل هذا في الجيش عند توزيع الجنود، فيقبل الكل على الإعلان عن حرفهم أو مؤهلاتهم عساها تكون فاتحة خير عليهم، فيلحقوا بسلاح يناسب رغباتهم وآمالهم في قضاء فترة تجنيد مميزة.. إلا أن حظ الدكتور لويس كان بشعًا، فقد اقتاده عسكري السجن إلى بلاعة وأمره بتسليكها.. مادام "بيعرف يقرا ويكتب"!
تكسير لويس عوض - وحتى من كانوا في مقامه - للحجارة في سجن الواحات، ووفاة "شهدي" إثر الاعتداء المبرح عليه، كان خطيئة كبرى، ويظل هو وكل جرم مماثل - وصمة عار لاتمحى. القصة المبكية المؤلمة.. رواها أحمد حمروش - أحد رموز الضباط الأحرار - في كتابه "مجتمع عبد الناصر"! مقتل الرجل المناضل ظل وجعًا يقض مضاجع الديمقراطية وحقوق الإنسان في ما تلى ذلك من أيام. الروايات كثيرة عن ملابسات اعتقال الشيوعيين.. لسنا هنا بصدد دحض أو تأكيد أو تفنيد هذه الروايات، وإنما هنا نتساءل عن سبب الإمعان في الاذلال والتعذيب لأصحاب الرأي والفكر المخالف؟ ألم يكن ممكنا إسكات المعارضين بادخالهم السجن فقط رغم ما في ذلك من إهدار للحريات؟! وهل يليق بمفكرين أن يدفعوا فاتورة الاختلاف سجنًا و تعذيبًا وقتلًا؟ نتساءل عن سبب قبول لويس عوض تسليك البلاعة؟ وقبل ذلك إهدار كرامة الفقيه القانوني عبد الرزاق السنهوري (أيا كانت خطيئته) ضربًا بالأحذية في حديقة مجلس الدولة، وكاد متظاهرون ان يفتكوا بقانوني ضليع، ضربا بالأحذية، والتصقت تهمة الاعتداء بعبد الناصر، لأن السنهوري (أنقذه وقتها الصاغ صلاح سالم ) قد أوعز لزوجته بأن تمنع عبد الناصر من زيارته في المستشفى!
المحبوسون من الفاسدين في عصر مبارك لم يُكَسِروا حجارة، ولم يُقْتل أحد منهم في السجن.. بالعكس هناك لصوص وهناك قتلة، هناك مفسدون لم يتم إهانتهم أو تكديرهم أو إذلالهم أو معاقبتهم مطلقا ، بل سمح لهم بطلاء عنابرهم وكهربتها بإضاءة جيدة وتكييف غرفهم مع أنها مفروض زنازينهم! ووضعت بها ثلاجات (!!) وربما جاءت لهم الأطعمة الفاخرة من أشهر المطاعم! قامة أي سجين منهم لم تكن ترق أبدًا إلى ربع قامة لويس عوض أو شهدي أو عبد العظيم أبو العطا! بل تحولت الإقامة في الزنازين إلى نزهات، مع انتقالهم إلى مستشفيات مزرعة طرة التي يبدو أنهم حولوها إلى فنادق خمسة نجوم، حتى أن أحد أشهر القتلة لم يقبع في زنزانته أبدًا، وإنما أقام في مستشفي تابع للسجن، وقضي مدة عقوبته فيها، حتى أُطلق بعفو صحي!
سخرية من سخريات القدر ان ينزل قتلة و لصوص المال العام والمتهمون بالإفساد السياسي زمن مبارك في زنزانة خمس نجوم، بينما الكتاب والمفكرون على مر العصور كانوا يحفرون في الصخر ويكسرون البازلت ويسلكون البلاعات ولا يتجرعون شربة ماء إلا بميعاد ولا يتناولون سوى العدس بطينه، ولا تقدم عنهم معلومات لذويهم، ولا يحرص على تزويدهم بأدويتهم أو علاجهم، ولا ضمانات لهم فيما يتعلق بحقوقهم القانونية، أما آخرون مفسدون فيمكن لهم جلب طعامهم من "مكسيم"!
.. ومن سخريات القدر ايضًا أن يعود هؤلاء المفسدون للظهور وفي مناسبة عظيمة كافتتاح المتحف الكبير، في تكريم شبه رسمي، بذريعة أن بعضهم رعاة حفل الافتتاح، يوحي أنهم اكتسبوا شرعية جديدة، واكتست حللهم الزاهية والتهبت بحديث الوطنية، وكأن الله عفا فعلا عما سلف. هل فعل الله ذلك؟ من يمكنه الإفتاء؟!
- ثقافة التعذيب قديمة جدًا، لا نغفرها لناصر ولا لغيره، رغم أنه لا يقارن بغيره، لأن تحديات عصره كانت كبيرة وهائلة والمتربصون بالثورة كانوا كثرا، ولأنه في المقابل وإن كان هزم النخب المثقفة وأتعب المبدعين ونكل بخصوم الرجعية ودعاة الاستعمار والمتواطئين معه كجماعة الإخوان ومنهم سيد قطب مثلا، إلا أنه انتصر لجموع المصريين، وترسخ من أفكاره أن الديمقراطية الاجتماعية لها الأولوية على الديمقراطية السياسية. فيما بعد ٦٧ راجع ناصر أفكاره، وبحسب عبد الحليم قنديل في كتابه المهم عبد الناصر الطبعة الأخيرة فإن وثائق أجتماعات اللجنة المركزية "تؤكد انه كان مع تحول ديمقراطي يقوم على إنشاء حزبين سياسيين، وأن تبدّا عجلة الديمقراطية في الدوران" .
- لا نعرف كم المبالغات التي ألصقها بحقه خصومه العتاة في تلك الفترة، لكن أيا ما كان الأمر، فإن التعذيب في السجون كان وسيظل في أي عصر سقطة كبرى وعملًا مشينًا. ما جرى قدم مادة خصبة لرائد هذه المبالغات الكاتب الكبير مصطفى أمين. رموز الخصوم من طرازه وفي معيته كانوا موسى صبري وجلال الحمامصي وجلال كشك وجمال حماد وعبد العظيم رمضان وأحمد رائف وصافي ناز كاظم (حزنها شديد حتى اللحظة على مقتل العاملين خميس والبقري، ويؤلمها - على حد قولها - تعذيب السيدة زينب الغزالي في السجن، أما إعدام سيد قطب فتعتبره استشهادًا!) ولعل بعضا من وقائع ملفات التعذيب التي ثبتت بحق كتاب ومبدعين ورموز سياسيين هي مايدفع كتابا كبارًا إلى إجراء مراجعات للتجربة السياسية والمنظور الديمقراطي الذي كان يوجّه بوصلة الرئيس ناصر.. ولعلهم لهذه الأسباب كانوا داعمين لفكرة الشاعر العظيم مهدي الجواهري في وصفه عبد الناصر بأنه "كان عظيم المجد والأخطاء".
لم يكن لويس عوض قاتلا أو لصًا، وكذلك لم يكن شهدي وغيرهما، لم تكن لديهم أموال للسمسرة ولا للمضاربة ولا قدرة على شراء شركات قطاع عام "ببلاش"- بالاقتراض من البنوك بلاضمان - وانما كان لديهم العلم والإبداع، ولم يخرج أحد منهم بعفو صحي وهو قاتل، ولم يتحايل ماركسيون أو غيرهم على الدولة، بدفع بضعة ملايين ثمنا للخروج من السجن (اللي ييجي منهم أحسن منهم) لكن إجمالًا ما كان للصوص وقتلة أن يعودوا إلى المشهد السياسي من بوابات عدة، منها تشكيل احزاب وخوض انتخابات صورية وتقديم تبرعات و..رعاية المتحف الكبير! سحقًا لهذه الرعاية!
ربما كان السادات في تلك الليلة حالكة السواد التي أعتقل فيها ١٥٣٦ كاتبا وصحفيا ومحاميا وطبيبا ومواطنا عاديا من المعارضين لسياساته، فيما عرف باعتقالات سبتمبر التي سماها كاتب من عينة موسى صبري ثورة ٥ سبتمبر (!!) رحيما رؤوفا بمن ألقى بهم النبوي إسماعيل في السجون، فقد سمح للسيدة هدايت تيمور بإرسال السمان الذي يحبه الأستاذ هيكل إليه في السجن، مع تلك الوردة الحمراء الشهيرة (انظر كتاب ذكريات سبتمبرية للمهندس والمفكر ميلاد حنا، والذي روى قصة السمان الشهيرة التي كانت مائدتها تجمع إليها اقطاب الزنزانة، وفي مقدمتهم فؤاد باشا سراج الدين.. لكن لا أحد ينسى ان السادات لم يكن رحيما أبدا بصحة المهندس الراحل عبد العظيم أبو العطا الذي تسبب إهمال آمري السجن في اعتلال صحته، فمنعوا الدواء عنه ماتسبب في وفاته وهو في السادسة والخمسين من العمر! أي رحمة كانت عند السادات الذي أمعن في التنكيل بخصومه، فـ" المحلاوي مرمي في السجن زي الكلب، وفؤاد باشا سراج الدين مثله مثل لويس السادس عشر ولد وفي فمه ملعقة من ذهب"!.. وأي حس سياسي كان لديه وهو يحبس المعارضة كلها في لحظة واحدة يسميها إمام المنافقين موسي صبري ثورة ٥ سبتمبر؟!
اعتقال اليسار عقب احداث انتفاضة الجوع عام ٧٧ كان مخيفًا، إلى حد ان الكاتب الكبير صلاح عيسى قال - في الوفد - أنه وهو المخضرم في الاعتقالات، فإنه هذه المرة قرر الهروب خوفا من التنكيل به: "حينما بدأت المحاكمة سلمت نفسى بعد 9 أشهر هروب متواصل".
أي ضمير سياسي حكم قرارت مبارك وزمانه بالتنكيل بالناس، فيختفي رضا هلال وينكل بعبد الحليم قنديل؟ هل كان مانشيت صوت الأمة يا مبارك إني أتقيؤك سببا في حفلة تعذيب تعرض لها على يد مجهولين، تركوه بعدها عاريا في الصحراء ؟!
وهل كان الشاب خالد سعيد يستحق مصيره الذي نعرفه؟ سواء هو أو عماد الكبير الذي تخوزق بعصا غليظة!
مازالت الليلة تشبه البارحة! اعتقالات وملاحقات يعقبها منع الهواء والدواء والإخفاء القسري والحبس الاحتياطي لأكثر من المدد المقررة، ماتزال سيفًا مسلطًا على كل صاحب فكر ورأي.. فيا أبانا الذي في المباحث: لماذا لا نبدأ من جديد وعلى "نضافة".. فإذا قررتم حبس معارضين لا تحبسوهم بشروطكم القديمة المعروفة.. احبسوهم بشروط جديدة أكثر عدالة، فهم ليسوا لصوصًا وليسوا قتلة ولا فسدة؟
احبسونا بس بشروطنا! هل هذا كثير؟ وصفة جديدة للحبس في المقال المقبل.
-------------------------
بقلم: محمود الشربيني






