19 - 11 - 2025

اعتذارات واجبة قبل رحيل الهيئة الوطنية

اعتذارات واجبة قبل رحيل الهيئة الوطنية

على الهيئة الوطنية  للانتخابات أن تقدم اعتذارها، قبل استقالتها التي يطالب بها كثر، على ضوء ما تم الكشف عنه من سكوتها، وصمتها على جرائم الرشى الانتخابية وشراء الأصوات في انتخابات المرحلة الأولى للبرلمان، وربما كان للفساد السياسي أن يمرق دون أن تنتفض الهيئة الموقرة أمام المال السياسي الفاسد الذي يتغول على القضاء بأكمله ويتفاخر علانية بشراء أصوات الفقراء في أقاليم مصر، لولا البيان الرئاسي الكاشف الذي أسقط نزاهة العملية الانتخابية تماما، ونزع عنها ثوب الشرف السياسي.

لا أحد يستطيع التعليق على القرارات والإجراءات التي تتخذها الهيئة الموقرة في عموم الفضاء القانوني، لكن من حق الرأي العام أن يحاسبها سياسيا، محاسبة عسيرة قد تصل إلى المطالبة بتقديم استقالتها .. وقبل الرحيل عليها أن تعتذر أولا إلى الآتي "أسماءهم":

الاعتذار الأول للشعب المصري الذي، يرى في القضاء، الملاذ الوحيد، إذا ما أراد أن يسترد حقا له مسلوبا، بكرامة، دون أن"يطاطي" لصاحب سلطة، أو قوة، أو يذعن ويرضخ مضطرا لإرادة فاسد.

القُضاه الأجلاء يقيمون قلعة شامخة، داخل الوعي العام والضمير الشعبي، هي كل ما تبقى له من حصون العدالة الاجتماعية، التي تتهدم بمعاول "المال الفاسد"، وعليهم التصدي لمحاولات استبدال"الصورة"النبيلة التي رُسِمَتْ داخل الوجدان الشعبي، لرجال العدالة، باعتبارهم حماة الضعفاء والبسطاء والفقراء، الذين لا حول لهم، ولا قوة ، أمام سيطرة المال الفاسد على مقدرات حياتهم، من خلال برلمان يسعى البعض إلى تشكيله على قواعد يفسدها ويجرمها القانون، ومال ينفق ببذخ، يثير الشكوك حول ما سيجنيه المرشح من وراء دخوله البرلمان بكل هذا الحجم من الإنفاق، وما إذا كان منسجما مع القانون أم عملية من عمليات غسيل أموال.

ايضا عليها الاعتذار للمصريين عن أية شبهة، حامت وتحوم حول القضاء المصري بسبب  صمت وسكوت الهيئة الوطنية للانتخابات عن شراء الأصوات.. الاعتذار قيمة إنسانية في حد ذاتها، وشرف مهني وتراث قضائي أصيل، يتوجه التقليد الراسخ باعتذار القاضي من تلقاء نفسه عن النظر في قضايا، قد تَعْلَقْ بها"فتافيت"علاقات شخصية مع أحد الأطراف المتنازعة، فضلا عن حق المتقاضين في رد القاضي نفسه فما، بالهيئة الموقرة، التي بدت وكأنها شريك بالصمت في التجاوزات القانونية المُجَرّمة.. هكذا تعلمنا من قضاتنا الأجلاء، وفهمنا منهم العدالة باعتبارها قاطرة النهضة والتنمية الاجتماعية،

الاعتذار واجب أيضا للتاريخ المجيد للقضاء المصري، سواء على المستوى الاجتماعي بواسطة أحكام النقض التي تنحت في الجسد التشريعي لتعديل قوامه بما يتواءم مع تطورات العصر .

أو على المستوى السياسي ، وتاريخ الحركة الوطنية المصرية التي انطلقت قبل اندلاع ثورة 1919 يشير إلى أن قيادتها ومفجريها كانوا من رجال القانون، قضاة ومحامون وكانوا النخبة المصرية المطالبة بالاستقلال عن التاج البريطاني، كانوا في طليعة الحركة الوطنية التي ثارت وضحت واستشهدت من أجل الاستقلال.. الاستقلال عمود الأساس الذي يقام عليه صرح العدالة، وما تورطت فيه الهيئة الموقرة يضرب عقيدة الاستقلال داخل البيت القضائي الواسع في مقتل.

ليس هذا وفقط كل ما قدمه رجال القانون والقضاء للوطن، إنما كانوا "رافدا من روافد حركة التنوير الوليدة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ودافعوا عن حق الإنسان في المعرفة والتفكير وإعمال العقل، بل وشجعوا البحث العلمى وأكدوا على حصانتة من هجمات "التفتيش في النوايا"، على النحو الذي دارت عليه المعركة الخالدة، بين الشاب الضرير طه حسين، وبين رجال الأزهر الذين اتهموه بالتجديف وإنكار ما هو معلوم عن الدين بالضرورة.. وقتها دافع القضاء المصري عن حق الباحث العلمي طه حسين في الشك في ما وصل إلى العقل المصري من معارف وثقافات عبر حقب زمنية طويلة لم تكن تعرف في أزمنتها التدوين بعد، إنما اعتمدت على التسجيل، بأسلوب النقل من الشفاه والذاكرة.. والسكوت والتغاضي عن جرلئم سياسية ليس من شيم رجال يحملون مشاعل التنوير وموروثه التاريخي.

لن أزايد على الهيئة الموقرة في أمر العدالة، فجميع أعضائها بلا استثناء يتوشحون بالشرف والنزاهة، بحكم النشأة والتكوين داخل أعرق وأقدم صرح يقيم العدالة في مصر.. صرح أقامه رجال القضاء على عمود الضمير الذي لا يلين أمام سلطة أو مال أو نفوذ.. لن نسامح أنفسنا إذا ما تخلينا عن الهيئة، في ملف "الضمير" وشجعناها على المضي في ما يضر هيبة القضاء وتاريخه المجيد، ودوره التنويري في حياة الشعب المصري.. علينا أن ندافع عن الهيئة الموقرة بقوة من أجل القضاء والعدالة، لا من أجلها، ونطالبها بالإعتذار قبل شد الرِحال.
---------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

اعتذارات واجبة قبل رحيل الهيئة الوطنية