16 - 11 - 2025

ربّةُ عسقلان بين الخِيام

ربّةُ عسقلان بين الخِيام

كنتُ هناك معهم ومنهم، لكنّي استيقظتُ فوجدتُني هنا بين الخيام المُلفّقة! فمَنْ أنا؟ المرأةُ التي تُخوّض في وَحْل المُجرى، وتطبخ الحجارةَ، وتغسل الجذور، وتنشرُ في الممرّ الضيّق المزدحم، ثوبَها الوحيد؟ أم تلك التي تتراءى لي في صحوي؟ ليس حُلماً ما أرى..هذه أنا! غير أنني أعود من حُلم اليقظة، فأجدني أجلس على حجرٍ طار من جدار، وأرى أحفادي، بأسمالهم الكابية، مع أترابهم المعفّرين يتقاذفون صحون الفراغ، وصوت القصف ينبئ بدمٍ جديد.

ليس حُلماً ما أرى، بل إنني هي؛ تلك المرأةُ الحنطيّةُ، زوج التاجرِ الذي ابتاع بيتَه قرب السوق، وله هوادج وأفراس. وأبي كان حاكم المدينة، ومسؤولاً عن الفرسان، وعمّن يقود المعركة..أنا هي، أنا هي! 

لكنّي أرى الآن عجاجَ الجنود وهم يقتحمون عسقلان، والنار تلتهم كل شيء.. والجلبة والدم والدخان والصراخ والجثث والرّعب والجنون..كأن القيامة قد وقَعَت، وكيف خرج الناسُ من بيوتهم مذعورين، وقد تركوا أشياءهم، وربما أطفالهم! وكأني أرى ذلك السربَ الطويل الذاهب جنوباً ينزح نحو المجهول، هرباً من بَقْر البطون واغتصاب الحارات والبنات.. والمفاتيح تتدلّى من الأحزمةِ، تشير إلى العودة بعد قليل. لكنّي أنتظرُ عودتي منذ سبعٍ وسبعين وأكثر. وقد التهمني الهمُّ، ومات زوجي التاجرُ، وتشظّى أبنائي في السّيرك الوطني، وضاعوا في بحر الدم الكَذِب. إنني، الآن، وحيدة في حمأة المخيم، وتحيط بي المدينةُ المردّمة، كأنني أستلقي على فِراشي، ليلة العيد، وأرقب الصباح لينبلج، لأخرج بثوبي الجديد، وأحثّ خطاي نحو بيت خالتي، ونسرعُ نحو المراجيح، قبل أن يأتي الجنود، ويبيدوا المدينةَ، ويُخْرِجوا أهلها سِرباً من الموتى والنازحين. ولماذا ترجع كل تلك الأيام، الآن؟ كأنني بضفائري أفتتح نهارها بخطواتي الصغيرة الثابتة. أو أُضوّع سطوحها بعبق دم المشمشِ والبرقوق، أو أنشرُ الياسمين على أبوابها ليلةَ التحوّل المصوَّح.. أو أرتعش على رذاذ قُطْنها كزلزالٍ ودودٍ يمرجح النجوم. أو كأنني ألتفت ورائي فأرى الدخان يُرمَّدُ كلّ شيء، وأسيرُ منكسرةً إلى البعيد، أو أنني جُرْمٌ هلاميّ يتلاشى تدريجياً، ويصعد من كوّة الصفيح إلى السماء، لعله يتكوّم غيمةً تسقط بمائها على المدينة المهجورة، أو يصبح نجماً يدور على بيوتها، فيرى آثارَ الداهمين، والدمَ المرشوق الأسود، والهياكلَ المتراكمة تحت التراب؟ أو يصير حفنةً من تراب تعلو، وتمضي إلى فضاء المدينةِ، وتحطّ على بابها، لتحتضن بذرة عبّاد شمس أو شتلة نور تنمو وتنمو وتنمو.. إلى أن تُظلّل المدينةَ من جديد.

أكاد أعدّ عروقَ النعناع على صدر تلك المرأة، وَحَبَّ الرمّان المنفرط على كُمّيْها، وأشمّ رائحةَ القرنفل تحت إبطيْها. هي أنا! الساكنةُ في باب السهل العالي، أصعد على درج الورد، فيلقاني بلباسه الكتّاني، يهبط مبتسماً إلى المدينة، كأنه يومئ بالرضا عمّا أحسَّه من جسدي المتجدّد، وكان يقلّبه كالكمّثرى بين فكّيه ويديه، حتى سال الثعبان إلى الشقِّ المتلهّف لماء الصّلب والترائب. وأكاد أسمع سقوطَ الماء في الجرار والأباريق، والسَّقّاءُ يدلحها من قِرَبه اللّدنة، وَعَرقُه يختلط بالسّلسبيل الرقراق. وأمرّرُ أصابعي على أطراف السرير المفرود، والصندوق ثابت في مكانه الثقيل، يحضن غلالاتي وأحزمتي وأوراق الورد الناشفة. ها أنذا، ألفّ وشاحي المزركش وقت الغروب، والعسلُ يفيض على أبواب الجبال الهادئة، والصغارُ يتلهّون بألعابهم، كأنهم يخربشون صفحةَ السماء بأيديهم الصغيرة، ويتركون للغيم الخفيف لعبةَ البياض من جديد. وها هو الطريق ينعرج تحت ناظريّ، كالنّاي المجوّف والمُثقَّب بفتحاتٍ تُفضي إلى الدكاكين والطرقات الصغيرة. وها هي الساحة والباعة والأصداء والعطور والطيوبُ والمنسوجاتُ والحنّاء واللآلئ والزيوت والبخور والمرّ والبلسم والقار والخزف والتوابل والملح والجواهر والشهدُ والفخاّر والأرجوان..وها هو الليل يعود ساحراً، يشمل كل المدينةِ بِغَبَشِهِ الشفيف الداكن! لقد انتهيتُ من إعداد الطعام، وسكبتُ جرّتين من الماء ورغوة الغار على جسدي، وحزمتُ قبضتين من الحبق والمنثور، وخزنْتهما حتى تطيب الرياح، ليأتي ويأكل، ويشرب العسل، وليسأل قليلاً، وليخلع درّاعته الحرير، وليتمطّى ويغفو على صفحة الناي، ليعود من جديدٍ بأنفاسه التي تُذيب لحمي، وتلهب صدري بتمسيد أسنانه ولسانه، وليزحف على سفح الحليب، ويزرعه بأشجار النار، ويتحسّس منابت الزغب المحصود ومسكب اللّبن الحلو، وليمتصّ آخر جمرةٍ في أطراف قدمي، لتنتفض حواء الأولى، وتبكي في نحيبها الحبيب توقَ الجنّة إلى الجحيم، وتنزلق في هُوَّ الغياب والغفوة، وتصحو، لتجد الأيلَ يرعى على سهوبها، يقضم البندق، ويعبّ الموجة من جديد!

أنا، يا ولدي، امرأةٌ آلهةٌ من فراديس عسقلان، ولدتُ وعشتُ وكنتُ هناك، وتلك امرأةٌ أخرى، لا أعرفها؟ غير أن كوابيس الشيطانِ تلاحقني أحياناً، والوَهْمُ يحاول أن يسرقَ ثوبَ العيد. أعطوني الثوبَ، وَلْتَبعدْ تلك المرأةُ، عنّي.
-----------------------------------
بقلم: المتوكل طه

مقالات اخرى للكاتب

ربّةُ عسقلان بين الخِيام