16 - 11 - 2025

"ديك تشيني" مهندس خصخصة الحروب وصناعة الموت

بينما يُغلَق النعش الأخير على جسد رجلٍ واحد، تُفتح في المقابل نعوشٌ لا تُحصى في ذاكرة الشرق الأوسط؛ رحل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ديك تشيني عن 84 عامًا، لكنّ أسراره لم تُدفَن معه، لأنها تحوّلت منذ زمن إلى كوابيس حيّة تلاحق ملايين البشر ما زالوا يدفعون ثمن قراراته من دمائهم وحياة أوطانهم.

رحل الرجل، لكن إرثه لم يرحل؛ فكلُّ مخيم لجوء، وكلُّ مدينةٍ مدمَّرة، وكلُّ طفلٍ يولد في خيمةٍ مهترئة، هو – بشكلٍ ما – سطرٌ جديد في السيرة السوداء لاستراتيجية «خصخصة الحروب» التي هندسها ووضع قواعدها ذلك الرجل البارد القادم من نبراسكا، الذي قرَّر أن يحوِّل الحروب إلى «مشروعٍ استثماري» قابلٍ للتوسّع والنمو، تقوده شركاتٌ خاصة تستأجر «المرتزقة» بدلًا من الجنود الوطنيين، وتخوض الحروب بالوكالة عن الجيوش، وتغزو الدول، وتُسقِط الأنظمة، وتقتل الأطفال، وتَهتك الأعراض، بلا ضميرٍ يوجِعها، ولا رقيبٍ يُحاسِبها، ولا حسيبٍ يُوقِفها عند حدّها.

صناعة الدم والنار في قاموس ديك تشيني

«خصخصة الحروب» مصطلح كئيب وثقيل على الوجدان ارتبط باسم وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ديك تشيني، وهي الفكرة التي حوّلت الحروب إلى «بيزنس» عابر للقارات، و«صناعة دولية» تستثمر في الخراب والدم والدموع، كانت العراق وأفغانستان أولى ساحاتها وأبشع ضحاياها.

وتعني هذه الفكرة تحويل جزء كبير من مهام الحرب من يد الجيوش النظامية إلى «شركات خاصة» تُدار بعقلية المقاول لا بعقلية الجندي، على طريقة شركة «بلاك ووتر» وشقيقاتها من شركات المرتزقة التي خرجت من رحم هذه المرحلة؛ وتحت لافتات براقة من نوع «شركات خدمات أمنية»، «شركات دعم لوجستي»، «شركات مقاولات عسكرية»، وُلدت صناعة كاملة مهمتها الحقيقية شيء واحد وهي «إنتاج وتصدير العنف، ثم إعادة تدوير نتائجه في عقود إعادة الإعمار».

وتشمل مهام هذه الشركات كافة شؤون الحرب، بداية من خلق بؤر التوتر وإدارة الصراع، ثم وضع خطط الحرب وإشعال الجبهات، ثم إدارة العمليات على الأرض، لتنتهي – بكل برود – على طاولة الحكومات بفرض عقود إعادة الإعمار وترميم ما دمّرته القنابل ذاتها، بل وحتى تقديم «الخدمات الطبية» لمن حوّلتهم هذه الحروب إلى جرحى ومعاقين.

هكذا تحوّل «بيزنس الحروب» إلى نموذج فجّ لاستثمار الموت؛ تبيع الشركات السلاح، وتدير العمليات، وتحتكر صفقات الإسعاف والدواء والبناء، في دورة ربح لا تتوقف، وقودها جثث البشر وخراب المدن ودموع الأمهات الثكالى.

وحين غادر تشيني البنتاجون لم يخرج من عالم القوة، بل غيّر المقعد فقط؛ انتقل إلى رئاسة مجلس إدارة شركة «هاليبرتون» العملاقة لخدمات النفط، تلك الشركة التي تمتد أنابيبها من حقول البترول إلى قلب العقود الحكومية في واشنطن، وهناك اشتد يقينه بأن طريق الثروة يمر عبر النفط كما يمر عبر الحروب، وأن من يملك عقود الإمداد والبناء في زمن الحرب يملك مفاتيح خزائن المال والنفوذ.

ومع بداية الألفية الجديدة كانت «هاليبرتون» وشركتها الفرعية Kellogg Brown & Root (KBR) – بتشجيع من البنتاجون – تضع التصوّرات الأولى لنقل مهام الإمداد والتموين وبناء القواعد وتشغيل المعسكرات من يد الجيش إلى يد المقاول الخاص، تحت الشعار السحري «القطاع الخاص أكثر كفاءة وأقل تكلفة»، وأن الدولة لا ينبغي أن تنتج هذه الخدمات، بل «تستأجرها» من الشركات.

في هذا المعمل البارد صيغت فلسفة «خصخصة الحروب» قبل أن تُختبر على جسد العراق الحي.

11 سبتمبر.. اللحظة الذهبية لمهندس خصخصة الحروب وشركات المقاولات العسكرية

عاد ديك تشيني مرة أخرى إلى البيت الأبيض نائبًا للرئيس جورج بوش الابن بعد انتخابات 2000؛ عودة رجل جمع بين خبرة صناعة القرار في الدولة وخبرة إدارة العقود في الشركات، ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر لتقدّم له «اللحظة الذهبية» التي ينتظرها.

اندفعت إدارة بوش إلى ما سُمّي «الحرب على الإرهاب»، وصاغ تشيني مع تيار المحافظين الجدد عقيدة «الحرب الوقائية»، وروّج للعالم قصة «أسلحة الدمار الشامل» في العراق وعلاقة صدام حسين بالقاعدة، وسرعان ما سقطت بغداد عسكريًا، لكن الأهم أنها فُتحت اقتصاديًا أمام أكبر مائدة في تاريخ «مقاولات الحروب»، وعلى أرضها تجسّد نموذج «خصخصة الحرب» بأوضح وأقبح صوره؛ فحصلت شركة KBR، الذراع اللوجستية لـ«هاليبرتون»، على عقود بمليارات الدولارات لتوفير كل ما تحتاجه القوات الأمريكية من بناء القواعد، وإقامة المعسكرات، وتقديم الطعام والوقود، وغسيل الملابس، ونقل البريد، وإدارة «الحياة اليومية» للجيش المحتلّ.

تقارير رقابية أمريكية قدّرت قيمة الأوامر المرتبطة بهذه العقود بما يتجاوز عشرة مليارات دولار في سنوات الحرب الأولى وحدها، بينما حصلت الشركة نفسها على عقد لاستعادة وتشغيل البنية التحتية النفطية العراقية بقيمة وصلت إلى نحو سبعة مليارات دولار، في مناقصة شبه مغلقة صُمّمت كما لو كانت «تفصيلًا» على مقاس الشركة التي ترأسها تشيني سابقًا.

لم تكن «هاليبرتون» وحدها؛ شركات هندسية وأمنية كبرى مثل «بيكتل» حصدت عقودًا لإعادة إعمار الكهرباء والمياه والطرق والمدارس، وصلت قيمة بعضها إلى ما يقترب من ملياري دولار للعقد الواحد.

تحوّل العراق، الذي قُدِّم غزوه للعالم بوصفه «حملة تحرير شعب من ديكتاتور»، إلى موقع مقاولات مفتوح تتدفق فيه المليارات بين وزارة الدفاع والوكالات الأمريكية من جهة، وبين شبكة شركات المقاولات العسكرية والأمنية من جهة أخرى، بينما كان العراقيون يُتركون لمصيرهم بين احتلال مباشر، واحتلال مقنّع بحراسة شركات أمنية، وفراغ أمني واسع فتح الطريق أمام الميليشيات والتنظيمات المتطرفة.

صناعة دولية اسمها «شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة»

وراء هذه السردية تقف منظومة كاملة اسمها شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة؛ وهي طيف واسع يبدأ من الشركات اللوجستية والإنشائية التي تبني القواعد وتُدير المعسكرات وتستقدم عمالة رخيصة من دول فقيرة، ويمر بشركات الأمن المسلح مثل «بلاك ووتر» و«داينكورب» التي تولّت حماية الدبلوماسيين والقوافل والمنشآت في العراق وأفغانستان مقابل عقود بمئات ملايين الدولارات، وصولًا إلى شركات الاستشارات والتدريب العسكري التي تعيد تشكيل جيوش وبُنى أمنية كاملة في البلقان وأفريقيا والخليج.

دراسات متخصصة قدّرت أرباح هذه الصناعة الوليدة بنحو 200 مليار دولار سنويًا، تغطّي «الطيف الكامل لأنشطة الدفاع» من الدعم اللوجستي إلى التدريب والقتال المباشر، في منحنى صاعد لا ينخفض إلا عندما تهدأ الحروب؛ لذلك كان المطلوب دائمًا أن تشتعل جبهات جديدة، وأن يطول أمد النزاعات، لأن السلام – في منطق هذه الشركات – خسارة في دفتر الحسابات.

وفي ذروة الحرب في العراق وأفغانستان، بلغ عدد المتعاقدين المدنيين العاملين لحساب وزارة الدفاع الأمريكية نحو 155 ألفًا من المرتزقة، بينهم آلاف من دول الجنوب الفقيرة؛ يموتون ويُصابون بعيدًا عن عدّادات الرأي العام، بلا إحصاءات شفافة ولا مساءلة سياسية، وكأنهم جنود بلا أسماء يُدفنون في صمت، بينما تُعلن الشركات أرباحها في صخب أسواق المال.

ومن أبرز هذه الشركات على سبيل المثال لا الحصر:

- شركة «هاليبرتون» Halliburton عبر فرعها «كيلوج براون آند روت» KBR قدّمت النموذج الأوضح لتزاوج السياسة بالبيزنس العسكري، بعقود لوجستية وتشغيل حقول النفط في العراق تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات.

- شركة «بيكتل» Bechtel دخلت العراق من بوابة «إعادة الإعمار» عبر عقود للبنية التحتية في الكهرباء والمياه والطرق والمطارات، قاربت قيمتها 3 مليارات دولار.

- شركة «فينيل كوربوريشن» Vinnell Corporation رسّخت نموذج «جيش بالوكالة» من خلال عقود طويلة الأجل لتحديث الحرس الوطني السعودي وتدريبه وتسليحه وحماية منشآت نفطية، بقيمة تراكمية بلغت مليارات الدولارات.

- شركة «دينكورب» DynCorp International أصبحت الذراع الأساسية لتدريب قوات الأمن في العراق وأفغانستان؛ كُلِّفت بتدريب الشرطة وبناء جزء من بنيتها المؤسسية وتأمين قيادات مثل الرئيس حامد كرزاي، وحققت إيرادات سنوية تُقدَّر بمليارات الدولارات في قطاع «بيزنس الأمن».

- شركة «MPRI» (Military Professional Resources Inc.) قدّمت نموذج «هيئة أركان كاملة للبيع»، حيث تضم آلاف الضباط الأمريكيين المتقاعدين الذين يقدّمون خدمات تخطيط وتدريب واستشارة عسكرية لجيوش حليفة من البلقان إلى الخليج، عبر برامج تدريب وتسليح تُقدَّر قيمة كلٍّ منها بعشرات ملايين الدولارات.

- شركة «BDM إنترناشونال» BDM International ظهرت كبيت خبرة دفاعي واستشاري مقره فيرفاكس بفرجينيا، عاش على عقود تسليح وتدريب واستشارات عسكرية في الشرق الأوسط، بإيرادات تقدر بمئات الملايين من الدولارات سنويًا.

- شركة «أرمور هولدينجز» Armor Holdings تخصصت في إنتاج معدات الحماية والعربات المدرعة، وحصلت على عقود لتزويد الجيش الأمريكي بشاحنات تكتيكية وعربات محصّنة وتجهيزات حماية فردية، من بينها عقد واحد عام 2006 بقيمة نحو 649 مليون دولار، فضلًا عن عقود مرتبطة بحرب العراق ساهمت في نمو إيرادات شركات تابعة مثل ArmorGroup.

- شركة «كيوبيك أبليكيشن» Cubic Applications مثّلت الوجه «الناعم» لخصخصة الحروب، إذ ركّزت على تصميم برامج التدريب والمحاكاة والحروب الافتراضية للقوات الأمريكية وحلفائها، مقدّمة تمارين ميدانية ومحاكاة قتالية قبل نشر الوحدات في ساحات مثل العراق وأفغانستان، ضمن مجموعة Cubic Corp التي تتجاوز إيراداتها مليار دولار سنويًا.

- شركة «SAIC» (Science Applications International Corporation) دخلت «بيزنس الحروب» من بوابة المشاريع الإعلامية والتقنية وإعادة تنظيم مؤسسات الدولة في العراق، مثل إعادة هيكلة شبكة الإذاعة والتلفزيون وبناء القدرات المؤسسية، وحققت في عام 2004 إيرادات بلغت نحو 6.7 مليارات دولار، وأكثر من 80٪ منها من عقود فيدرالية أمريكية مرتبطة بحربي العراق وأفغانستان.

- شركة «DFA» الدولية في واشنطن جسّدت نمط «مكاتب التحليل والتنبؤ الدفاعي» التي تتاجر بالمعلومات والتقارير الإستراتيجية أكثر من انخراطها في العمليات الميدانية؛ إذ تبيع للبنتاجون وشركات السلاح دراسات سوق وسيناريوهات عسكرية وتقديرات تهديد بعقود بملايين الدولارات سنويًا.

- شركة «إنترناشونال تشارتر» International Charter في ولاية أوريجون مثّلت نموذج الشركات الصغيرة – المتوسطة التي تعمل كمقاول فرعي داخل شبكة أكبر؛ فمع أن عدد موظفيها الدائمين لا يتجاوز بضع عشرات، فإنها متعاقدة مع نحو سبعة آلاف عسكري متقاعد على أهبة الاستعداد لتنفيذ المهام عند الطلب، وتتولى أعمال دراسات واستشارات وتدريب لمهام محددة في مناطق النزاع، بعقود أقل حجمًا من عمالقة القطاع لكنها شديدة الربحية وتشكل جزءًا مهمًا من البنية البشرية لصناعة المرتزقة العالمية.

من العراق إلى العالم.. انتشار الفيروس

اليوم، بعد رحيل ديك تشيني، لم يعد نموذج خصخصة الحروب ظاهرة أمريكية خالصة، فقد تحوّل إلى صناعة عالمية تتجوّل حيثما وُجد نزاع أو ثروة أو حدود رخوة؛ فنرى شركات أمنية تحرس حقول النفط في الخليج وأفريقيا، وشركات استشارات عسكرية تعيد تشكيل جيوش في منطقة الساحل، وشركات مرتزقة تقاتل في أوكرانيا وعلى تخوم روسيا وليبيا وسوريا والسودان، وأخرى تعرض خدماتها على حكومات هشّة تريد ضبط حدودها أو قمع احتجاجات داخلية من دون أن تتحمل مسؤولية سياسية أمام شعوبها.

لقد زُرِعت البذرة في البنتاجون، لكنها أثمرت غابات من العنف المأجور من الساحل الأفريقي إلى صحارى الشرق، ومن خرائط أوكرانيا المشتعلة إلى أحياء صنعاء وغزة وطرابلس والخرطوم، حتى أصبحت الحروب بالوكالة تجارة رائجة، وتحولت الميليشيات إلى «شركات مسجلة»، وصارت الدماء عملةً متداولة في أسواق النخاسة الإنسانية تُسعَّر فيها أرواح البشر على جداول إكسل، ويُقرَأ فيها الخراب على أنه «عائد على الاستثمار».

لقد نجح تشيني في «تسويق الموت»، وجعل من الخراب مهنةً يحترفها الكبار، وعلّم الطغاة كيف يقتلون شعوبهم عبر عقود مع شركات أمنية بدل الاعتماد على جيوشهم الوطنية، وكيف يمكن تحويل القمع إلى «خدمة مستوردة» تُدفع قيمتها بالدولار أو بالامتيازات والموارد.

ومع ذلك، ثمة شيء واحد لم يستطع تشيني وشركاته خصخصته، وهي «ذاكرة الشعوب»؛ هذه الذاكرة أعمق من أن تُمحى، وأقوى من أن تُشترى؛ ستظل تحرسها حكايات الدم والألم التي يتناقلها الناس من جيل إلى جيل، وستظل الجدّات يحكين لأحفادهن عن ليالي القصف، وسيظل الأطفال يسمعون من أجدادهم قصص البيوت التي تهدّمت، والمستشفيات التي قُصفت، والمدارس التي تحوّلت إلى أنقاض، ولن تنسى الأجيال أن هناك من جعل من دموعها سلعة، ومن آهاتها سوقًا، ومن تراب أوطانها مادةً للاستثمار.

كل طفل يولد في مخيم، وكل أم تنتظر عودة غائب، وكل شاب يحلم بوطن لا يحكمه تجّار الموت، هو شاهد حيّ على أن الإنسانية قد تنام لكنها لا تموت، وأن هذه الذاكرة الجماعية هي محكمة التاريخ الحقيقية التي ستحاسب يومًا – ولو بعد حين – ليس فقط ديك تشيني، بل كل من شارك في هذه الجريمة الإنسانية، وكل من ظنّ أن في وسعه تحويل آلام البشر إلى أرقام في حساب بنكي آمن؛ ذلك هو جوهر الفاجعة، وربما يكون أيضًا بداية الوعي؛ فحين تدرك الشعوب أن دماءها تُدار كصفقة، يصبح الغضب أول الطريق لاستعادة الكرامة، ويصبح التمسّك بالذاكرة أول خطوة على طريق عدالةٍ مؤجَّلة، لكنها قادمة لا محالة.
-------------------------------
بقلم: د. حماد الرمحي


مقالات اخرى للكاتب