16 - 11 - 2025

فلسطين بين الخرائط والاعتراف | رحلة الوعي الوطني من الانتداب إلى الدولة

فلسطين بين الخرائط والاعتراف | رحلة الوعي الوطني من الانتداب إلى الدولة

كأن فلسطين طوال قرنٍ كامل كانت تحاول أن تنتزع صوتها من بين ركام الخرائط. منذ انتهاء الحكم العثماني عام 1922 ودخول عهد الانتداب البريطاني، لم يكن المشهد مجرد تبدّل سلطة، بل بداية انهيار توازنات قديمة وصعود وعي وطني جديد كان يتخمر بصمت تحت ضغط الهيمنة الاستعمارية. كانت فلسطين، بمقدار ما تُدار من الخارج، تُعيد تعريف نفسها من الداخل.

حين صدر قرار التقسيم 181 عام 1947، بدا العالم كمن يوزّع وطنًا على صفحة دفتر. القرار منح المشروع الصهيوني قاعدة صلبة للاعتراف، وبالمقابل، ترك الشعب الفلسطيني أمام جغرافيا تتفتت وسردية تحاول النجاة. لم تمضِ سنة واحدة حتى أعلنت الحركة الصهيونية قيام “إسرائيل”، لتدخل الضفة الغربية تحت الحكم الأردني، وتخضع غزة لإدارة مصرية عسكرية مؤقتة، ويُعاد رسم المشهد السياسي بخطوط قاسية.

في الستينيات تغيّر كل شيء. الفلسطينيون، الذين كانوا يُعاملون كقضية تُدار، قرروا أن يصبحوا شعبًا يقرر. وُلدت منظمة التحرير عام 1964 إطارًا جامعًا، ثم انطلقت الثورة الفلسطينية عام 1965 بقيادة فتح، لتعلن أن الكفاح المسلح ليس خيارًا منفلتًا، بل محاولة لاستعادة زمام التاريخ.

الهزيمة العربية عام 1967 زادت المشهد التباسًا، لكنها أيضًا صهرت الوعي الفلسطيني في لحظة واحدة: الاحتلال بات شاملًا، والهوية السياسية اكتسبت وضوحها الأكثر صلابة. وفي 1974، منحت الأمم المتحدة منظمة التحرير صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في اعتراف دولي بأن الرواية لم تعد قابلة للتجاهل.

ثم جاءت بيروت. حصار 1982 كان إحدى أكثر المحطات قسوة، لكنه دشّن فصلًا جديدًا: خروج منظمة التحرير من لبنان لم يكن نهاية معركة، بل انتقالًا إلى مرحلة سياسية أكثر تعقيدًا. وبعدها بخمس سنوات، انفجرت انتفاضة الحجارة عام 1987، لتعيد زمام المبادرة للناس، ولتبث في العالم صورة الفلسطيني الذي يواجه بأدواته البسيطة آلة الاحتلال.

عام 1988 حمل علامتين فارقتين: قرار الأردن فك الارتباط مع الضفة الغربية، ثم لحظة الجزائر التاريخية عندما أعلن ياسر عرفات قيام دولة فلسطين استنادًا إلى القرار 181. الأمم المتحدة استبدلت اسم المقعد من “منظمة التحرير” إلى “فلسطين”، خطوة رمزية لكنها كسرت جدارًا سياسيًا ظل قائمًا لعقود.

في 1994، تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية فوق جزء من أرض الضفة وغزة تنفيذًا لاتفاق أوسلو والقرار 242 الداعي لإنهاء احتلال 1967. لكن الطريق لم يكتمل؛ اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000، وتدحرجت العملية السياسية إلى حالة جمود طويل.

العام 2007 كان جرحًا داخليًا عميقًا: سيطرة حماس على غزة بالقوة، وما تبع ذلك من انقسام سياسي وجغرافي وحروب متتالية بلغت ذروتها في حرب الإبادة التي بدأت عام 2023 وما تزال ترسم ندوبها على حاضر الفلسطينيين ومصيرهم.

في 2012، رفعت الأمم المتحدة مكانة فلسطين إلى “دولة مراقب”، واستبدلت الاسم رسميًا إلى “دولة فلسطين”، اعترافًا قانونيًا يرسّخ ما انتزعه الفلسطينيون بالنضال لا بالهبات الدبلوماسية.

واليوم، بعد سبعة وثلاثين عامًا على إعلان الاستقلال، باتت 159 دولة تعترف بدولة فلسطين، بينها دول كبرى أعادت النظر في مواقفها خلال العامين الأخيرين مثل بريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا والبرتغال وبلجيكا ومالطا ولوكسمبورغ وأندورا وموناكو. العالم، ببطءٍ يشبه تساقط الضوء، يقترب من الحقيقة التي لم تتغير: أن الفلسطينيين شعبٌ له وطن، وأن هذا الوطن ليس فكرة عاطفية بل حقيقة سياسية تُدفع أثمانها من الدم والعمر.

التاريخ الفلسطيني ليس خطًا متصلًا من الانكسارات، بل رواية عن قدرة شعب على إعادة تكوين نفسه كلما ظنّ الآخرون أنه انتهى. وما زالت الصفحات مفتوحة، في عالم يتغير بسرعة، وفي صراع لم يعد يخفي جوهره: معركة بين من يملك القوة ومن يملك الحق، وبين وطن يسعى للاعتراف وبين وعيٍ وُلد أصلًا ليبقى.
--------------------------------
بقلم: حاتم نظمي


مقالات اخرى للكاتب

فلسطين بين الخرائط والاعتراف | رحلة الوعي الوطني من الانتداب إلى الدولة