موسم الانتخابات النيابية فى بلدنا موسم خصيب، فيه تقسم الحظوظ، وتنال الرغائب، وتمنح الأُعطيات، فهذا يفوز بمقعد فى المجلس ويصير لقبه "نائبًا"، وذاك يخسر مقعدًا لكنه يصيب حظًّا من الشهرة ويظفر بلقب "مرشح سابق"، وهذا لم يظفر بلقب نائب ولا مرشح سابق لكنه كان مقاول انتخابات لأحدهما، يعقد له المؤتمرات، ويقيم له المحافل، ويجمع له (الهتِّيفة)، فينال حظوة، ويتكسب أجرًا، وحتى عامة الناس من (هتِّيفة) الانتخابات الذين لا يعلمون من أمر الانتخاب إلا أنه هتاف فى الطرقات، ورقص عند ابواب اللجان لا يخرجون من المولد بلا حمص، فمنهم من يكون نصيبه ورقة مال، أو ورقة لحم، أو ورقة شاى، أو ورقة "بفرة"، بل إن من هم مثلى من عواجيز الفرح ممن لا حظَّ لهم فى الكراسى ولا الأموال ولا المناصب، فإنهم لا يخرجون من الموسم مبخوسين ولا مغبونين، بل إن الموسم يمدهم بمادة وافرة من النوادر والخواطر، فيكتبون وينشرون، فلا ينفد مدادهم، ولا تنقضى مقالاتهم!
وصحفيو مصر وإعلاميوها ليسوا بِدعًا من الأمر، فالانتخابات عند طائفة منهم هى موسم عظيم من مواسم (الفوتو سيشن)، وهم فيه (الفوتو جرافر) لقنص اللقطة الحلوة، واللقطة الحلوة عند هؤلاء الإعلاميين والصحفيين لا شأن لها بانتخاب ولا سياسة، بل طبل وزمر أنصار يطوف الأحياء والطرقات! أو عروسان قد سبقت وطنيتُهم فرحتَهم فأبوا إلا أن يدليا بصوتيهما قبل الدخول إلى عش الزوجية! أو معتمر قد أَبَت عليه حميته المصرية أن يطير إلى البقاع المقدسة قبل أن يتضمخ أصبعه بالحبر الفسفورى! أو قعيد يتصل بالإسعاف لتحمله إلى لجنة الانتخاب! أو عجوز ذاهلة العقل قد ناهزت المائة لا تدرى ما الناخب ولا المنتخَب يحملها أبناؤها لتشهد البيعة! أو طوائف من النسوة الشعبيات يرقصن بأبواب اللجان! ثم يجمع الإعلامى والصحفى هذا كله فى صور، ومرئيات، وأخبار يبثها تباعًا إلى الفضائيات، والمواقع، والصفحات؛ ليكيد الخواجة، ويغيظ المتربص، ويفرح الأحباب باستتباب الأمر، واستتمام دواوين الحكم!
وإن يكن لهذه (الحنة البلدى) من حسنة فهى أنها قد حملتنى على أن أرجع إلى الدستور المصرى لأطالع الفصل الأول من الباب الخامس وموضوعه السلطة التشريعية (مجلس النواب)؛ لأعلم نبذة عن هذا الذى يدعونه "مجلس نواب"، فقرأت هذا الباب فوجدت أن له من الجَدّ والخطر شأن لا يليق وهذه (الحنة) المنصوبة!
ففى الدستور المصرى أن من أعمال النواب فى مجلس النواب: أنهم يراقبون عمل الحكومة، ويقرون الموازنة، ويشرعون القوانين، ويُسائلون الحكومة، ويطرحون الثقة عن الوزراء ورئيس الوزراء (كُلٌّ بشروطه)، وبموافقتهم يُعقد لواء الحرب، وتُعلن حالة الطوارئ، ويُصدَّق على المعاهدات، وينبغى أن يعمل نوابه كل ذلك بما يراعى مصلحة الشعب المصرى بحسب القسم الذى أقسموه فى أول دورتهم، فهذه بعض من تكليفات النواب، فانظر كم هى ثقيلة تلك التكليفات والأمانات التى يحمل بها هؤلاء النواب!
فكيف بعد هذا القدر العظيم لمجلس النواب أن نجعل انتخاب نوابه موسمًا لأخذ اللقطة؟! أو أخذ وجبة؟! أو الترزق بالثمن البخس؟!
إن مقام إدلاء المواطن الناخب بصوته فى الانتخابات يماثل مقام الإدلاء بشهادة بين يدى القضاء، فهل هذا المقام الجليل يصح فيه اصطحاب رقاصات و دى جى، أو تقديم فاقدى الأهلية فى صدارة اللقطة؟!
إننى ألوم كثيرا كثيرا على طائفة من الإعلاميين والصحفيين أنهم انصرفوا لأخذ لقطة (فوتو سيشن انتخابات) وبينما هم مشغولون باللقطة إذ تفلت منهم أصحاب اللقطة فجعلوا من وقار الحدث سيركًا هازلًا!
لقد كان الأوْلى بالإعلامى قبل أن يأخذ اللقطة أن يعلِّم شعبه ما هم مقدمون عليه ليقدروا للأمر خطره وجده. سيفهم العامى كلامك إذا ذكرت له أن عمل هؤلاء النواب فى المجلس سيؤثر على قوت عيالهم ومعايشهم لسنوات طوال! سيعقل العامى حديثك إذا أخبرته أن ينتخب نائبا لا يوافق للحكومة على القرض بعد القرض فيقيد شعبه بديون بعد ديون، سيفقه العامى قولك إذا أعلمته أن نائبه إن أحسن اختياره يمكنه أن يستجوب وزير التعليم ويطرح عنه الثقة، فيخرجه من الحكومة ومن السلطة، فحينئذ ستجد هذا العامى يعى كلامك، وينتخب من يحسن القيام بسلطاته.
ألوم القائمين على أمر الانتخابات رضاهم ولو بالصمت والتغافل أن تخرج لقطة الانتخابات كمثل (السيرك) الهازل دون توقير للمجلس والحدث، ودون أخذ بالاعتبار صورة مصر الحضارة! نعم نحن شعب أهل فكاهة ومرح، لكن الهزل فى غير موضعه سفاهة واستهانة لا تليق باسم مصر، ولا بشعب مصر.
ثم إن لنا حديثًا آخر فى شأن نواب المجلس: عَمّن ينوبون؟ وبلسان من ينطقون؟ وهل هؤلاء ينوبون عن عموم الشعب المصرى أم هم مجلس الأعيان والعُمد؟ وهل نحن عامة الشعب المصرى نحتاج إلى غرفة (عموم) تكافئ غرفة (اللوردات)، لكن لنرجيء ذلك الحديث إلى حين.
----------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]






