15 - 11 - 2025

الشفرة المصرية

الشفرة المصرية

في أحد مشاهد فيلم عودة الابن الضال، إخراج يوسف شاهين وبطولة هدى سلطان ومحمود المليجي وشكري سرحان ونخبة من أفضل الممثلين، يسترعي انتباه اثنين من رجال الأمن، يجلسان في مكتبهما، صوت هتافات قادمة من الشارع، فيسارعان نحو النافذة يفتحانها وينظران بريبٍ وبقلبٍ يخفق إلى جموع المواطنين التي تتحرك كموج البحر الهادر، هاتفين بصوتٍ واحد "ها نحارب.. ها نحارب"، فيتبادلان النظر، فيعلق الأقل رتبة (دول مش رجالتنا يا باشا)، فيرد الآخر بنبرة تقرير (دول الشعب).

كان هذا المشهد قد سبقه، مشهدٌ آخر، جاء فيه صوت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر محملاً بهمومٍ وآلامٍ بوزن حجارة المقطم، مُعلنًا بصوتٍ مكسور تنحيه عن منصبه، بعد حرب الأيام الستة عام 1967.

فما كان من الشعب إلا أن خرج بعفوية وتلقائية، يرفض قراره ويدعوه إلى الاستمرار، مؤكدًا أنه – الشعب - بكل طوائفه، يقف وراء قيادته، وأنه سيحارب.

كان الخروج التلقائي للجماهير مفاجئًا للمسئولين آنذاك، الذين ظنوا أنه بعيد كل البعد عن المشاركة السياسية، وأن أقصى ما صدر عنه أن يهز رأسه أسفًا على ما آلت إليه الأحوال، ثم يمضي إلى حال سبيله، فإذا به في نفرته الفطرية، يؤكد يقظته وأنه ليس نائمًا ولا غارقًا في سباتٍ عميق، بل مستيقظ ومتابع، يفرز الأحداث ويتفاعل معها بغريزة ترسّخت في جيناته، فإذا وجدها تستحق، تفاعل معها، وإن لم يجد، تجاهلها، أو على رأي رجل الشارع (إدّاها الطرشة).

هذا الشعب هو نفسه الذي رأيناه خلال الأيام السابقة لافتتاح المتحف المصري الكبير، يعدّ الساعات ترقبًا للحدث العظيم، ويستبدل صوره على مواقع التواصل بأخرى يرتدي فيها زيًا فرعونيًا، رجالاً ونساءً وأطفالاً، حتى علق أحدهم مازحًا (المصريين شالوا اللبس الصيفي وطلعوا الفرعوني!).

الساحات التي امتلأت عن آخرها، وأجواء البهجة والسعادة الغامرة المتسربة من بين شقوق متاعب الحياة وضغوط البحث عن لقمة العيش، والعين البصيرة والإيد القصيرة، وتغميس لقمة العيش الحاف بعرق الكفاح، وحلم نومة هنية بعد يوم تعب سبق فيه الشمس قبل ما تعتب باب البيت.

رجوعه في زحمة المواصلات يتونس بنور القمر، صوت الكُمساري "وفيه مكان فاضي قدام يا أفندية"، زعقة "هدي هنا يا أسطى"، مع قفزة محسوبة وبقى في الشارع، وزعقة شكر "تسلم يا كبير.. طريق السلامة".

"مسا الفل يا أبو حنان علبة فول محوج وخمس أقراص طعمية وقرطاس بتنجان مخلل"، إيده وهي بتدور في الجيب عن الفلوس كالتائه في مولد شيخ العرب ويقينه إنها دايمًا مستورة.

دخلته على أولاده وريحة العشا تسبقه، وش أم العيال اللي مليان حنان ومحبة مع كلمتين من صنف "حمد الله ع السلامة يا خويا.. بركة إنك بخير.. نورت بيتك.. غَيَر على ما احط العشا.. واطمن الولاد أكلت وشبعت المهم صحتك، ويخليك ليهم.. واشمعنى يوم الزفر تقولي اتغديت في الشغل وتقسم كومك ع العيال، روح إلهي ما نتحرم منك". فضفضة الجلابية وإحساسك بالبراح في صالة متر في متر.

هذا الإنسان الذي تظنه لا يعرف في الدنيا سوى الجري ورا لقمة العيش، هو نفسه الذي جعل الذكاء الاصطناعي يلبسه فرعوني، وكل شوية يغير المنظر ويضحك من قلبه ويبعته لأصحابه وأحبابه، هو نفسه اللي وقف في الساحة وعينيه دمعت وقلبه سبق لسانه وقال (تحيا مصر)، هو نفسه اللي جده بنى الهرم، وأبوه نزل وقال لجمال عبد النصر (ها نحارب).

مثل هذا الإنسان لديه استعداد أن يفوت في الصخر، بالمعنى الحرفي، واسأل جدوده الفراعنة، والتضحية بروحه عندما يؤمن بشيء. 

ما حدث ليس مجرد احتفاء بحدث ثقافي أو تاريخي، بل هو تجلٍّ واضح لما يمكن تسميته بـ"الشفرة المصرية"؛ ذلك النمط الفريد من التفاعل الشعبي الذي يجمع بين العفوية والعمق، بين الحس الوطني والوعي التاريخي. 

هذه الشفرة لا تُقرأ بالحروف، بل تُستشعر في المواقف، وتُترجم إلى أفعال جماعية تتجاوز التوقعات. إنها تعبير عن وعي جمعي متجذر، لا يحتاج إلى تحريض أو توجيه، بل يتحرك حين يشعر أنه أمام عمل صادق، بحق وحقيق، وأنه يُخاطب عقله ووجدانه ولا يلعب على مشاعره. من الهتاف "ها نحارب" إلى دمعة في ساحة المتحف، تتكرر الإشارة إلى أن المصري لا يغيب، بل يراقب، ويختار لحظة التفاعل حين يرى أن الأمر جاد ويستحق.

حفظ الله الوطن.
----------------------
بقلم: د. م. 
محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

الشفرة المصرية