حفل توزيع جائزة العويس الثقافية على الفائزين حميد سعيد وإنعام كجه حي وحميد لحمداني وعبدالجليل التميمي
في لحظة تتوّج مسيرة أربعة عقود من الإبداع والاحتفاء بالعقول العربية المضيئة، انطلقت فعاليات حفل توزيع جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في دورتها التاسعة عشرة، والتي ذهبت إلى الشاعر العراقي حميد سعيد بجائزة الشعر، والروائية العراقية إنعام كجه جي بجائزة القصة والرواية والمسرحية والناقد المغربي حميد لحمداني بجائزة الدراسات الأدبية والنقد، والمفكر التونسي عبد الجليل التميمي بجائزة الدراسات الإنسانية المستقبلية، لتجسّد استمرار رسالة الثقافة بوصفها ضمير الأمة وجسرها نحو المستقبل. استُهلّ الحفل بعرض فيلمٍ تسجيلي قصير تناول مسيرة المؤسسة ومؤسسها الراحل الشاعر سلطان بن علي العويس، واستعرض محطات الجائزة وأسماء الفائزين الذين تركوا بصمتهم العميقة في حقول الفكر والأدب والعلم.
أعقب الفيلم كلمة مجلس أمناء المؤسسة التي ألقاها الدكتور أنور قرقاش، رئيس المجلس، حيث أكد أن الفائزين بجائزة العويس الثقافية هم "منارات الفكر والإبداع في عالمنا العربي"، يضيفون إلى التراث العربي مزيدًا من العمق والتجدد، ويغذّون مسيرة الإبداع بما يفتح آفاقًا جديدة للفكر والمعرفة.
وقال إن الجائزة تُجسّد تقديرًا مستحقًا لجهود المبدعين في ميادين الأدب والفكر والعلوم، ودافعًا لمواصلة العطاء والتميّز.
ولفت قرقاش إلى أن عام 2025 يمثل محطة استثنائية في تاريخ المؤسسة، إذ يصادف المئوية الأولى لولادة الشاعر سلطان بن علي العويس، التي احتفت بها المؤسسة عبر سلسلة من الفعاليات الثقافية امتد صداها عربيًا وعالميًا، تكريمًا لرمزٍ جعل من الكلمة جسرًا للتنوير، ومن الشعر رسالةً للإنسان والحياة.
وأضاف أن العويس كان نموذجًا للمثقف العربي الأصيل، الذي عبّر بصدق عن اعتزازه بالأدب العربي، وآمن بأن الثقافة هي زاد الأمة وضميرها، فأسّس هذا الوقف الحضاري تكريمًا للكلمة المبدعة والعقل المستنير، ليظلّ منارة تُنير دروب الفكر والإبداع العربي لأجيال متعاقبة.
وأكد قرقاش أن دولة الإمارات العربية المتحدة، بقيادة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، تواصل نهجها في دعم الثقافة والمبدعين وإعلاء شأن الفكر والمعرفة، انطلاقًا من إيمانها بأن الإبداع هو ركيزة التنمية، وأن الثقافة هي روح المجتمع الحي وضميره الذي يصون الهوية ويبني الإنسان ويصوغ المستقبل.
وفي ختام كلمته شدّد على أن الأدب والثقافة والفكر ليست ترفًا، بل ضرورة إنسانية وحضارية تُبنى بها القيم، وتترسخ الهوية، ويتعمق الوعي، مؤكدًا أن الثقافة تبقى في زمن التحولات المتسارعة البوصلة التي تحفظ توازن الإنسان وتلهم مسيرته نحو الخير والجمال والمعرفة.
وعن مشاعر الفائزين، ألقت الكلمة الروائية إنعام كجه جي، معبّرة باسم زملائها الفائزين عن الشكر والاعتزاز بهذه اللفتة النبيلة التي تحمل اسم شاعرٍ عربيٍّ كبير ولد في هذه البلاد الطيبة، وقالت "نبيلة لأنها تحمل اسم أديب شاعر، وكريمة لأنها تأتي من رجلٍ أفنى حياته في خدمة وطنه، وأسّس ما يخلّد الثقافة ويكرّم الكلمة."
وأضافت أن الجائزة تكتسب معنى خاصًا هذا العام بمناسبة الذكرى المئوية لولادة سلطان بن علي العويس، مؤكدة أن هذا الاحتفال ليس مجرد تكريم، بل هو تجديد للعهد مع الكلمة الحرة، واستذكارٌ لسلطان الشعر الذي قال:
إن يخلُ يومُك من ذكرى معطرّةٍ
فقد أضعتَ من الأيامِ ما عبِقا.

وتلا التقرير النهائي للجنة تحكيم الجائزة التي يترأسها الأمين العام للمؤسسة عبد الحميد أحمد، عضو اللجنة علي عبيد الهاملي.. وكان كالتالي:
أولاً: حقـــلُ الشعـــــرِ:
قررتْ اللجنةُ منحَ الجائزةِ للشاعرِ حميد سعيد لما تتمتعُ بهِ تجربتُهُ الشعريةُ من تماسكٍ واطلاعٍ واسعٍ على التراثِ العربيِ والإنسانيِ من جهةٍ، ووعيٍ عميقٍ بحداثةِ القصيدةِ العربيةِ في مراحِلِها الفنيةِ والتاريخيةِ المترابطةِ من جهةٍ أخرىْ، فقصيدتُهُ تغترفُ مادتَها وجمالياتِها من حياةٍ محتشدةٍ بالألمِ والأملِ والوعيِ بتحدياتِ العصر ِوصولاً إلى قصيدةٍ حارةٍ ومقلقةٍ تتماهَى مع تطلعاتِ الأمةِ إلى حياةٍ أكثرَ جمالاً وعدلاً.
وتشيرُ اللجنةُ أيضاً إلى شغفِ الشاعرِ بالإيقاعِ كمكونٍ جماليٍ ودلاليٍ، يشدُّ نسيجَ القصيدةِ ويزيدُ معناها عُمقاً وجاذبيةً. ومع أن الشاعرَ من أكثرِ كُتّابِ قصيدةِ التفعيلةِ اقتداراً، فهو شديدُ الميلِ إلى التجريبِ والتنويعِ المحسوبَين داخلَ هذا الفضاءِ الإيقاعيِ الذي ينظِمُ قصائدَهْ.
ثانياً: حقلُ القصةِ والروايةِ والمسرحيةِ:
قررت اللجنةُ منحَ الجائزةِ للروائيةِ إنعام كجه جي، لما تميّزتْ به كتابتُها الأدبيةُ من قدرةٍ على المزجِ بينَ الجانبينِ التوثيقيِ والأدبـيْ. برزتْ في أعمالِها موضوعاتُ الهُويةِ، والمنفَى، والاغترابِ، والتشظيِ النفسيِ، والحنينِ الذي يُعيدُ اكتشافَ الماضِي ويطرحُهُ برؤيةٍ نقديةٍ جديدةٍ، وهو ما عبّرَتْ عنه شخصياتٌ عاشتْ على أطرافِ التاريخِ ولم تجِدْ مَنْ يروي حكاياتِها، ومنها نساءٌ واقعاتٌ في قلبِ الحياةْ، يحضُرنَ في مُنجَزِهَا الأدبيِ بقوّتِهنَّ، وضعّفِهنَّ، ونجاحاتِهنَّ، وانكساراتِهنَّ، وبكل ما يَلْقَيْنَ من تناقضاتٍ وتحدياتٍ.
وإذ تمزِجُ إنعام كجه جي الوثائقيَ بالمتخَيَّلِ، فإنها ظلّتْ وفيّةً لِلُغةٍ أدبيةٍ راقيةٍ، وسرديةٍ بعيدةٍ عن التكلّفِ والصَّنْعةِ، كما تميزَتْ رواياتُها بحواراتٍ ثريةٍ تكشفُ التناقضاتِ الإنسانيةِ الفكريةِ والانفعاليةِ، وتعكسُ في الوقتِ ذاتِهِ قسوةَ الواقعِ الاجتماعيِ والسياسيِ، فكانتْ الصوتَ الأدبـيَ الذي أسهمَ في إضاءةِ الزوايا المُعتِمةِ في الذاكرةِ الجمعيةِ، ولعب دوراً في اكتشافِ الهوامشِ المنسيةِ التي لم تحظَ بالضوءِ الذي تستحقُهُ.

ثالثاً: حقلُ الدراساتِ الأدبيةِ والنقدِ:
قرّرتْ اللّجنةُ منحَ الجائزةِ للنّاقد حميد لحمداني؛ لما يتمتعُ به منجَزُه النّقديُ من أصالةٍ منهجيّةٍ، وتراكمٍ معرفيٍ، واستمراريّةٍ نقديّةٍ لمشروعٍ ضخمٍ ومتراكمٍ، بدأ تقريباً في سبعينيّاتِ القرنِ العشرينَ، ولا يزالُ مستمرًّا في تحقيقِ التّثاقُفِ المعرفيِ بين النقدِ العربيِ والغربيِ، حيثُ تنفتحُ تجربتُهُ على المُنجَزِ الغربيِ بوعيٍ يتمثّلُ مُعطَياتِهِ، ويُعيدُ إنتاجَهُ في سياقٍ معرفيٍ جديدٍ، من خلالِ تقديمِ المنهجِ ومراجعتِهِ ونقدهِ، والاشتغالِ على النقدِ التطبيقيِ.
ويتميّزُ مشروعُهُ النّقديُ بالشُّموليّةِ، حيثُ اشتغلَ على نقدِ السّردَ (الرّوايةِ -القصّةِ)، ونقدِ الشّعرِ، ونقدِ النّقدَ. واشتغلَ على عددٍ من المناهجِ النقديّةِ: التّاريخيِ، والنّفسيِ، والسّيميائيِ، والسّوسيولوجيِ، كما تُشيرُ اللجنةُ إلى استمراريةِ مشروعِهِ النقديِ وعُمقِ تأثيرِهِ في مجالِ الدراساتِ السّرديةِ والنقديةِ، وحجمِ شراكاتِهِ المعرفيةِ ممثَّلةً بالكُتبِ، والمشاريعِ النقديةِ الجماعيةِ، والمجموعاتِ والمختبراتِ النقديةِ.
رابعًا: حقلُ الدراساتِ الإنسانيةِ والمستقبليةِ:
قررتْ اللجنةُ منحَ الجائزةِ للباحثِ عبد الجليل التميمي، وهو أحدُ أبرزِ المؤرِخينَ العربِ المعاصرينَ، وتمثلُ أعمالُهُ البحثَ التاريخيَ كما جرى تطويرُه في الفكرِ المعاصِرِ، إضافةً إلى تَنَوُّعِ مجالِ اهتمامِهِ التاريخِيِ، حيثُ انصبَّتْ أعمالُهُ على دراسةِ تاريخِ الموريسْكِيِّينَ في الأندلسِ، وتاريخِ الولاياتِ العربيةِ في العهدِ العثمانيِ، وتاريخِ تونُسَ المعاصرِ، وتُعدُ أعمالُهُ نموذجاً للتوثيقِ التاريخيِ المستَنِدِ إلى القواعدِ الجديدةِ في الكتابةِ التاريخيةِ.
كما أسهمَ حضورُهُ المُتواصلُ والمتجددُ في البحثِ التاريخيِ منذُ ثمانينياتِ القرنِ العشرينَ في إنتاجِ مجموعةٍ من الأعمالِ التي تشهدُ على قوةِ خياراتِهِ المنهجيةِ وأصالتِها. وقد أنشأَ الدكتور التميمي مؤسَسةً متخصصةً في الدراساتِ والبحوثِ والتوثيقِ والمعلوماتِ، الأمرُ الذي أسهمَ في مَأْسَسَةِ نمطِ حضورِهِ في المشهدِ الثقافيِ العربيِ العامْ.
واختُتم الحفل بفقرة موسيقية قدّمها أوركسترا أكاديمية الفجيرة للفنون، الذي أضفى على الأمسية لمسة فنية، عبَرت بالأجواء من بهاء الكلمة إلى سحر اللحن. وقد قدّم الأوركسترا باقة من الأغنيات الشهيرة لكبار المطربين العرب، أداها باقتدار كلٌّ من أليسار السعيد وريتا سلطان وسلطان السامرائي، في أداءٍ جمع بين الأصالة والتجديد، واختتم الأمسية بنغمة احتفاءٍ بالثقافة والفن والإبداع العربي.






