13 - 11 - 2025

الشاعر العراقي حميد سعيد: خلال تجربتي الشعرية كل مجموعة تنفرد بخصوصيّتها

الشاعر العراقي حميد سعيد: خلال تجربتي الشعرية كل مجموعة تنفرد بخصوصيّتها

يتميز الشاعر العراقي حميد سعيد الفائز بجائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها التاسعة عشرة، بقدرته على الجمع بين التجربة الإنسانية العميقة والرؤية الفلسفية المتفحصة. وُلِد في بيئة عراقية غنية بالتحولات الثقافية والسياسية، مما أثر على كتاباته التي تمزج بين الشعر الفردي المفعم بالعاطفة والصوت الجمعي الذي يعكس هموم الأمة العربية. يتسم شعره بالقدرة على التجديد والابتكار، حيث يوظف الصور الشعرية الدقيقة والرمزية المتعمقة ليخلق نصوصًا قادرة على لمس التجربة الإنسانية بأبعادها المختلفة: النفسية والاجتماعية والسياسية. أعماله تتسم بالجرأة في الطرح والعمق في المعنى، فهي تتناول الهوية والذاكرة والوجود بأسلوب شعري يمزج بين الحساسية والوعي النقدي. ويجسد فوزه بجائزة الشعر اعترافًا بمسيرته الطويلة في إثراء الشعر العربي الحديث، وبقدرته على تجاوز الحواجز الجغرافية والثقافية، ليصبح صوتًا شعريًا معاصرًا يتميز بالشمولية والعمق والرؤية الإنسانية المتفردة.

في هذا الحوار الذي استكمالا لحوار طويلة أجرينا معه عقب إعلان فوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية فرع الشعر، نضئ بعض جوانب رؤيته.. وننطلق من بغداد التي تُعتبر مركزًا متكررًا في شعرك، ونسأله: 

* هل بغداد عندك مكان أم رمز؟ وهل تغيّرت صورتها في شعرك بعد الغربة؟.. 

- يقول سعيد "بغداد، مكان ورمز في آن واحد، وبغداد المكان والرمز، ليس في شعري فقط، بل في الواقع، في التاريخ وفي الحاضر. صحيح أن حاضرها لم يكن بمستوى ذرى تاريخها، لكن هذا الحاضر بكل ما فيه، لم يجردها من ألقها ومن حضورها وأثرها في التاريخ وفي المعرفة الإنسانية، ولو ذكرنا الآن أي نشاط معرفي وأي إنجاز حققه هذا النشاط، ستكون بغداد حاضرة بما حققته في هذا النشاط، والتأثير في هذا الذي تحقق. في الدرس الفلسفي وفي الفقه والتصوف والشعر والكتابة والموسيقى والرسم والعمارة وغيرها من فروع المعرفة. وبغداد في حياتي، قبل أن تكون في قصيدتي، هي المنار والدليل، وهذا القول ليس من باب التعصب، بل من باب الوعي الموضوعي العميق. لذا حين أكتب لا أستدعيها ولا أقتحمها في شواخصها وفي مصادرها، بل هي التي تأتي بكل عنفوانها وتشاركني في ما أكتب. لذا تراني أعشقها، مكاناً ورمزاً، ودرساً بدأ وما انتهى ولن ينتهي. ولم أبالغ حين قلت: حين أفتح عيني صباحاً، أراها، واسمع غناء بلابلها، لذا لم أغترب عنها، فهي معي دائماً، نستعيد معاً، كل الذي كان وننتظر معاً ما سيأتي. لا أخاف عليها،لكنني أخاف أن أموت ولا تشاركني لحظاتي الأخيرة.

* كيف تصوغ علاقتك بتاريخ بغداد الثقافي؟ وهل تحمل القصيدة عندك حنينًا أم نقدًا لهذا التاريخ؟

- لماذا يحاول هذا السؤال، تحديد علاقتي بتاريخ بغداد، في حالين، الحنين إلى ذلك التاريخ وفيه من العطاء والجمال والمجد، ما يدفع بالمرء إلى الحنين، أو إلى نقده، وفيه من أسباب النقد، مثل كل تواريخ المدن الكبرى والعريقة في العالم، ما يمكن أن يُنقد. لكنني لم أجد نفسي في خانة الناقدين، مع أنني أمارس النقد أحياناً، ولا في خانة الحنين، وفي تاريخ بغداد الثقافي وغير الثقافي ما يستحق الحنين، والحنين عندي هو الاستحضار والتمثل، والفخر أحياناً. كيف لي وأنا من عشاقها لا أستحضر فلاسفتها ومتصوفتها وفقهاءها وشعراءها وموسيقييها، بل كيف لي ان لا أستذكر شطارها وعياريها وفتيانها . وفي هذا الاستحضار وهذا الحنين، ما تعلمنا منه، بل ما تعلم العالم منه.

وقصيدتي التي تتمثل تاريخ بغداد وتستحضره، لا تتشكل خارج ذلك التاريخ ولا ترتبط به بعواطف ساذجة، بل هي بعض منه وإضافة إليه. وعلى امتداد تجربتي الشعرية كانت بغداد حاضرة في قصائدي، وكل الذين استحضرتهم فيها من رموز، كنت أحس بالقرب منهم وكأنني واحد منهم، فكبير العيارين أبو يعلى الموصلي كأنه من أصحابي، والصوفي بشر الحافي، كأنني ما فارقت مجلسه، والشاعر علي بن الجهم الذي تبغدد وهو القادم من جغرافية بدوية، فأصبح أمثولة للتحضر البغدادي، حاضر في الكثير مما كتبت عن بغداد. وحين أعرج على بيت الحكمة، أكون واحداً من الفكر العاملين في أروقتها . لذا لا أستحضر تاريخ بغداد، بل أعيشه وأشارك في أحداثه وتحولاته.

* برأيك، هل فشل الشعر العربي الحديث في خلق قطيعة مع البلاغة التقليدية، أم كان صراعًا غير متوازن؟

- لو راجعنا الشعر العربي، منذ نصوصه الأولى، ورصدنا تحولاته ومتغيراته، لوجدنا أن لكل مرحلة من المراحل الشعرية، التي ارتبطت بمتغيرات كبرى سياسية واجتماعية وفكرية، ما يميزها على صعيد الشعر، بمكوناته ومنها المكون البلاغي. لذا فلكل مرحلة شعرية صفاتها ومكوناتها، وهذا الاختلاف والتباين بين الشعر العربي الذي سبق الشعر الحديث لا يعد قطيعة، ولا هو صراع غير متوازن، بل هو متغير مرحلي، يضاف إلى سلسلسة متغيرات سبقته ومتغيرات أخرى ستأتي.

* كيف كانت علاقتك بجيل الرواد؟ السياب، البياتي، بلند الحيدري… هل كان هناك تأثر أم محاولة تخطّي؟

- على صعيد العلاقات الشخصية لم أتعرف على السياب، وكنت قد رأيته مرتين فقط، وفي المرتين لم أتحدث معه، بل حتى لم أتبادل معه التحية. أما البياتي وبلند الحيدري فقد ارتبطت بهما بعلاقات طيبة وشاركتهما في نشاطات ثقافية وقراءات شعرية، وكتب الحيدري عن بداياتي الشعرية، مشيداً ومبشراً. أما على صعيد تواصل التجارب الشعرية فقد قرأتهم جميعاً، قراءة حوار وتأمل، لكن الذي توقفت عند نصه الشعري وتأثرت به وأفدت منه هو السياب، وكان هذا التأثر واضحاً في بداياتي الشعرية، لكن سرعان ما تجاوزت هذه المرحلة وصرت أكتب قصيدتي بمكوناتها الخاصة . إن التخطي ليس موقفاً سلبياً من تجارب الرواد، بل هو محاولة للإضافة والتفرد لأنني أدركت مبكراً، إن النسخة الثانية من أي نشاط إبداعي تظل خارج التاريخ الإبداعي، فحرصت أن أكتب قصيدتي لا أن أكرر قصائد الآخرين، على أهميتها تاريخياً وجمالياً.

* في زمنك، اختلطت القصيدة بالهم السياسي كثيرًا… هل كان ذلك خيارًا شعريًا أم واقعًا لا يمكن الهروب منه؟

- قبل أن نتحدث عن تداخل القصيدة بالهم السياسي، ينبغي أن نشير إلى ظاهرة تسييس المثقفين، والشعراء منهم. فمن النادر أن نجد شاعراً غير مسيس، ومثقل بالعمل السياسي، وبالتالي بالهم السياسي أو بالواجب السياسي. وكان ينظر إلى الشاعر غير المسيس نظرة سلبية، وهذا ما ضيق المساحة التي تتحرك عليها القصيدة، وكاد أن يحاصرها بالموضوع السياسي، مع تعدد المسميات، القصيدة الملتزمة والقصيدة الثورية والقصيدة الوطنية، وغيرها. والشاعر الملتزم، يرى هذه القصيدة خياراً لا بد منه وواجباً لا ينبغي تجاوزه. واقترن هذا الالتزام بمواجهتين، الأولى، قمعية تمارسها السلطات، والثانية نقدية، مصدرها الصراع بين القوى السياسية. وكلا المواجهتين، تؤديان إلى محاصرة القصيدة. وشارك في هذا الصراع، النقد، وكان انحياز النقاد إلى من يشاركهم قناعاتهم السياسية من الشعراء، واضحاً ومؤثراً. 

* بعد كل هذه التجربة، هل تغيّرت رؤيتك للزمن الشعري؟ هل الكتابة اليوم أكثر صفاءً أم أكثر مرارة؟

أكاد لا أجد حدودا ً لمصطلح الزمن الشعري، لا حدود زمنية ولا حدود جمالية، فالقصيدة في المرحلة التي عشتها والتي كتبت فيها الشعر ورصدت تحولاته ومستجداته، في تغير دائم، ليس على صعيد موضوعاتها أو شكلها وبنيتها حسب، بل على صعيد من يمثل هذا الزمن الشعري، من أسماء شعرية. وفي هذه المرحلة الزمنية، يصعب تحديد الزمن الشعري بسبب تعددية المناهج الشعرية أو المدارس الشعرية، إذا صح القول. فالتيارات الشعرية ليست على صعيد الفكر فقط، بل على صعيد الشكل، تعددت في تجاور إيجابي، بعد أن انحسرت العلاقة السلبية بين التيارات والمناهج والمدارس ولم يستطع أي تيار منها أن يلغي التيارات الأخرى، وصار المنبر الثقافي الواحد يفتح فضاءه لجميع التيارات وما يمثلها ومن يمثلها . بل صرنا نجد النص الواحد منها، يتشكل في تعددية فنية فيجمع بين الأشكال الشعرية التي حاول ممثلو كل تيار الغاء التيارات …

* هل تخاف من التكرار؟ كيف تحاول أن تجد صوتًا جديدًا مع كل مجموعة؟

- تجاوز التكرار، ليس سببه الخوف عندي، بل بفعل وعي إن المكرر لا مكان له في مسار الشعر أو الشاعر. وخلال تجربتي الشعرية، كانت كل مجموعة شعرية، من مجموعاتي، تنفرد بخصوصيّتها في ما تتناول من موضوعات، ولطالما كانت الموضوعات الجديدة تستدعي تجديداً في مجمل مكونات القصيدة، معجمها ورموزها وبناها اللغوية أحياناً. وأعمد إلى هذا الجديد بالتأمل والبحث، لذا أنقطع عن الكتابة الشعرية كلما انتهيت من كتابة مجموعة شعرية، فأنصرف إلى التأمل والبحث ومتابعة القراءات النقدية في نصوصها، وفترة الانقطاع التي أشرت إليها ليس لها زمن محدد، وتنتهي حين أدرك أن عندي ما أكتبه، وهذه الكتابة تحمل جديداً وفيها إضافة ما. ومن تجاربي في هذه الانقطاعات ما امتد إلى خمس سنوات بين آخر قصيدة كتبتها من مجموعة (حرائق الحضور) وأول قصيدة كتبتها من مجموعة ( طفولة الماء) . وفي فترات الانقطاع لم أكتب شطراً شعريا…

* في شعرك نجد لغة عذبة دون مباشرة، وصورًا عميقة دون غموض… ما المعيار لديك في تحقيق هذا التوازن؟

- تتشكل لغة الشاعر من عوامل عديدة، المحيط الاجتماعي والدرس المنهجي والقراءات، وبخاصة ما يحفظ من شعر أو نثر أدبي، وتغتني لغته بالقراءات التراثية والروايات. لذا يكون لكل شاعر لغته، التي تميزه عن الآخرين، ولغتي التي تظهر في ما أكتب من شعر أو نثر، تشكلت بالعوامل التي ذكرتها آنفاً. وهذه العوامل، أضف اليها الاستعداد الذي ينشأ مع المرء وينضج بنضجه المعرفي، هي التي تشكل ثقافة الشاعر التي تظهر في أفكاره وفي صوره الشعرية. والتوازن بين لغة الشاعر وعدته الفكرية والجمالية، هو نتاج موهبته وثقافته وخبرته. وهذه العوامل، وأقصد الموهبة والثقافة والخبرة، تمنحه ما يمكن أن نعدها، خبرة الصنعة. وطالما توفر الشاعر على خبرة الصنعة، نجح في هذا التوازن بين لغة قصيدته وأفكارها وجمالياتها.
---------------------------
حوار: محمد الحمامصي