سأل جلال الدين الرومي، ذلك الباحث الدائم عن النور، شيخه شمس التبريزي يومًا: "كيف تبرد نار النفس يا شمس؟"
فأجابه الشيخ بهدوء العارفين: "بالاستغناء يا جلال الدين، من ترك مَلَكْ ومن تعلّق هَلَك."
عبارة قصيرة، لكنها تختصر فلسفة الوجود كله. فالنفس لا تهدأ إلا حين تتحرر من لهاث الامتلاك، ولا تبرد نارها إلا حين تدرك أن ما تبحث عنه في الخارج يسكن في داخلها منذ البدء. ومن هنا، كان الاستغناء طريق التزكية لا بالعزوف عن الحياة، بل بالتحرر من هيمنتها علينا.
الاستغناء نعمة لا يدرك عمقها إلا من ذاق مرارة التعلق وضعف النفس أمام الأشياء أو الأشخاص ، فهو غنى خفيّ لا يُقاس بما نملك، بل بما يمكننا الاستغناء عنه دون أن نخسر سلامنا و من استطاع أن يستغني، امتلك نفسه وطوعها كما يشاء، فلا تحكمه رغبة، ولا تُسيره شهوة، ولا يتحكم فيه شخص أو غرض . والاستغناء ليس رفضًا للحياة، بل إتقان للعيش فيها دون أن تتحكم بنا، أن نعيشها ونحن أحرارًا وسط كل ما يُغري بالتعلق.
غير أن الوصول إلى هذه الحالة لا يتحقق بإرادة عابرة، بل هو مزيج من الإيمان والتدريب النفسي والوعي الذاتي ، فالإرادة تفتح الباب، لكن الإيمان يمنحك الثبات، والتدريب يصقل قدرتك على المضي في طريقٍ لا يخلو من اختبارات و الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول .. “أعظم الغنى غنى النفس”، وكأنما يلخص في كلمتين رحلة طويلة من التحرر الداخلي.
والانسان قادر بلا شك على الاستغناء متي أدرك أهمية أن يسترد ذاته ولعل أبلغ ما قيل في الإستغناء قول الشاعر مصطفي صادق الرافعي " وأنزلته من درجة أنه كلُّ الناس، إلى منزلة أنه ككلِّ الناس " .
ايضا الكثير من دراسات علم النفس الحديث تثبت ما قاله الحكماء قبل قرون، ففي دراسة نُشرت في عام 2018، وُجد أن من يمارسون ضبط الذات الواعي أكثر سعادة على المدى الطويل، لأنهم لا يلهثون وراء الإشباع الفوري، بل يختارون ما ينسجم مع قيمهم الداخلية ، ودراسة اخري نشرتها جامعة هارفارد عام 2016، تبيّن أن من يتعلمون مقاومة الاندفاعات اللحظية تقل لديهم معدلات القلق والاكتئاب، وتزداد لديهم مشاعر الرضا والاتزان النفسي.
فالاستغناء في جوهره ليس كبتًا، بل تحررًا من هيمنة الرغبات التي تُنهك الروح وتستنزف الكرامة في كثير من الأحيان، وما يعانيه البعض من تبعات التعلق من اضطراب وضيق سببه فقدان السيطرة على النفس، حين يتركها أسيرة لما تريده في اللحظة الراهنة، فيقع فريسة لعادات سيئة، أو تعلق مرضي، أو خضوع لرغبات الآخرين، و هنا يصبح الاستغناء خلاصًا، إذ يعيد الإنسان إلى مركزه الأصلي، سيدًا على ذاته لا تابعًا لأهوائه.
لكن هذه القوة لا تأتي دفعة واحدة. إنها تُبنى عبر وعي متدرج بأنك لست مطالبًا أن تملك كل شيء لتكون سعيدًا.
ويقول عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي كارل يونغ .. "إلى أن تتمكن من جعل اللاوعي واعيا، سيوجه حياتك وستطلق على هذا اسم القدر" بمعنى إذا لم تكن قادرًا على التحكم في الجوانب غير الواعية من شخصيتك وعقلك (مثل الأفكار والعواطف والرغبات التي تنشأ في العقل اللا واعي دون تحكم منك)، فستتحكم هذه الجوانب غير الواعية في حياتك وتقودك إلى مسار معين، وستتم تسميتها قدرا حتي تستطيع أن تسترد ذاتك و تتمكن من اتخاذ الخيارات الواعية التي تحقق أهدافك وتعيش حياة تفاعلية ومليئة بالمعنى.
والوعي هنا هو أول خطوة في طريق التحرر. أن تعرف ما الذي يملكك، فتتعلم كيف تستعيد نفسك منه، ثم تأتي الممارسة اليومية البسيطة، كأن تؤجل ردّك في لحظة غضب، أو ترفض مجاراة عادة تستهلكك، أو تقول “لا” لما يُراد منك رغم رغبتك في إرضاء الجميع، هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تخلق القوة الكبرى.
أيضا الإيمان بدوره يمنح هذا الوعي بعدًا أعمق، فالمؤمن الحق لا يطارد ما هو بيد الله، لأنه يوقن أن ما كُتب له سيأتيه ولو بعد حين، و يقول ابن القيم رحمه الله: "من ملأ قلبه من الرضا بالقدر، لم يضره فوات ما فاته من الدنيا" و من هنا يصبح الاستغناء وجهًا آخر للرضا، لا للزهد الجامد، بل للطمأنينة التي تثمر عن الثقة بالله.
قد يبدو الاستغناء في نظر البعض برودًا عاطفيًا أو انعزالًا، لكنه في حقيقته توازن دقيق بين الحب والحرية. أن تحب دون أن تتعلق، أن تبذل دون أن تنتظر، أن تقتني دون أن تستعبدك المقتنيات. هو وعي يجعلك أكثر صفاءً وصدقًا في علاقاتك، لأنك لا تبحث عن الآخرين لتكملك، بل لتشاركهم من امتلائك.
الاستغناء في النهاية ليس انسحابًا من الحياة، بل مشاركة أكثر وعيًا فيها، و أن تعمل وتحب وتعطي وتعيش، لكن دون أن تُستنزف .. أن تمتلك الأشياء دون أن تمتلكك، وأن تبقى حرًا مهما أحاطت بك المغريات وهذه نعمة عظيمة من الله سبحانه لا تُمنح إلا لمن صدق في طلبها، وتهذّب قلبه في الطريق إليها ، فادعُ الله أن يمنحك الاستغناء، فإنه باب القوة، وسر الطمأنينة، وذروة النضج الإنساني.
---------------------------
بقلم: سحر الببلاوي






