11 - 11 - 2025

الانتخابات والإعلام.. صوت واحد بأجهزة متعددة

الانتخابات والإعلام.. صوت واحد بأجهزة متعددة

حين أتأمل المشهد الانتخابي والإعلامي في مصر، يخيل إليّ أنني لا أتابع منافسةً سياسية بقدر ما أشاهد عرضًا محكم الإخراج، تُوزَّع فيه الأدوار بعناية مسبقة، وتُرسم نهايته قبل أن يبدأ. فالأحزاب التي تُلقّب نفسها بـ«الموالية» تتقاسم المقاعد كما لو كانت غنائم، والقوائم الفائزة تُعلَن قبل أن تُفتَح صناديق الاقتراع، أما الشاشات فتكاد تُغلِق نوافذ الرأي أمام كل صوتٍ مغاير. لقد غدا الإعلام المصري لا يعكس الواقع، بل يصنع واقعًا موازيًا، مُنمَّقًا على مقاس من يملكون السلطة ويخشون ضوء الحقيقة.

غير أن ما يثير تأملي ليس هذا الانحياز المبتذل الذي اعتدناه، بل ذلك التنوّع الخفي داخل هذا التماثل المصنوع. فحتى داخل معسكر السلطة نفسه، يلوح تفاوت واضح في طريقة تغطية القنوات للأحزاب القريبة من الدولة. وليس الأمر نتاج اجتهادٍ مهني أو صدفةٍ عابرة، بل نتيجة هندسة دقيقة تصدر عن دوائر سيادية تحدد مسبقًا من يستحق الأضواء، ومن يُدفَع إلى الظل.

في قنوات «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» تبدو الصورة، في ظاهرها، أكثر اتزانًا وموضوعية، غير أن من يتأملها بعمق يدرك أنها تخضع لمنطق مغاير. فهي تميل إلى إبراز حماة وطن، وتمنح الجبهة الوطنية حضورًا خافتًا، وتدفع بـمستقبل وطن إلى هامش الرؤية. وكأن كل جهاز سيادي في الدولة قد اتخذ لنفسه حزبًا مفضلًا، وقناةً تخدم خطابه، وإعلامًا ينطق باسمه داخل النظام ذاته.

أما في قناة «المحور» مثلًا، فيتجسّد الولاء لحزب «مستقبل وطن» في كل زاوية من زوايا البث. العاملون هناك يدركون أن التعليمات لا تحتمل التأويل: لا حديث إلا عن مرشحي الحزب، ولا حضور يُذكر لـ«الجبهة الوطنية» أو «حماة وطن» إلا على أطراف المشهد. وليس ذلك غريبًا حين يكون مالك القناة نفسه، محمد منظور، نائب رئيس الحزب. فشراء القناة لم يكن مغامرةً اقتصادية، بل حلقةً في مشروعٍ سياسي يُراد به احتكار الصوت والوجدان معًا.

هنا تتبدّى المفارقة الكبرى: لم تعد الانتخابات في مصر ميدانًا لصراعٍ بين سلطةٍ ومعارضةٍ بعد أن غُيّبت المعارضة عمدًا، بل صارت ساحةً لتنافس الأجهزة على النفوذ داخل جسد الدولة نفسه. وأما المواطن، فليس إلا متفرجًا على مسرحٍ ضخمٍ أُغلِق فيه باب الارتجال، وتُدار فيه الحوارات بمفاتيح تحكُّمٍ سيادي لا يرى أحدٌ سواه.

إن ما نعيشه اليوم لا يمكن أن يُسمّى حياةً سياسية، بل احتكارًا سياسيًا بأقنعةٍ متعددة. تُستعمَل فيه الأحزاب كأدواتٍ لتوزيع الولاءات، ويُستخدَم الإعلام كمرآةٍ مزيّفة تُجمّل هذا الاحتكار وتُخفي قبحه. تختلف الأجهزة في التفاصيل، لكنها تلتقي عند غايةٍ واحدة: إبقاء الفضاء العام تحت السيطرة المطلقة، ومنع أي صوتٍ حرٍّ من أن يتسلل إلى المجال العام.

وليس هذا المشهد، في جوهره، علامةً على قوة الدولة، بل على هشاشتها السياسية وخوفها من التعددية. فالنظام الواثق من نفسه لا يحتاج إلى هذا الحشد من القنوات التي تكرّر النغمة ذاتها، ولا إلى هذا العدد من الأحزاب التي تتنافس في الولاء بدلًا من الرؤية. ما نحتاجه حقًا هو إعلامٌ حرٌّ يعيد للمجتمع وعيه، وسياسةٌ حقيقية تعيد للمواطن صوته المفقود. فبدون الحرية، لا يُبنى وطن، بل يُعاد إنتاج الصمت بأشكالٍ أكثر أناقة.
---------------------------------
بقلم: إبراهيم خالد

مقالات اخرى للكاتب

الانتخابات والإعلام.. صوت واحد بأجهزة متعددة