لطالما تساءلت: لماذا تتحول ساحات الانتخابات في مصر إلى كرنفال للبروباجندا؟ هذا المشهد يتكرر كل بضع سنوات وكأنه حلقة مكررة من مسلسل لم نعد نطيق مشاهِدَه، لكننا لا نستطيع إغلاق التليفزيون! فتتحول ساحات الانتخابات في مصر إلى ما يشبه "كرنفال بروباجندا المهرجين" - مع تسجيل احترامي لكل العاملين بمجال التهريج - حيث يغص الفضاء بعدد من المرشحين يندر من يعرف منهم "واجبات نائب البرلمان!" وكل منهم يرقص رقصة سياسية أشبه بفأر تجري عليه تجارب في معمل تحت تأثير الجبن التركي!
وما أروع تلك المشاهد المكررة التي تتحول إلى استعراض كرنفالي يُعاد إنتاجه كل موسم انتخابي! ها هي الجدَّة العجوز تتوكأ على ذراع رجل الأمن في رحلة شاقة نحو الصندوق، وكأنها تقدم آخر أعمالها في مسرحية "التضحية من أجل الوطن"! وها هو الرجل المسن على كرسيه المتحرك يُدفع دفعاً نحو اللجنة، في مشهد درامي يصرخ: "انظروا.. حتى العاجزين يتحركون للتصويت"! وتلك النجمة التي تزغرد وترقص في طريقها إلى الصندوق وكأنها تحاول أن تُغطي على صوت الضمير في طابور الانتخاب! ويستقبلها رجال الأمن في رحلة أشبه بمسيرة انتصار تاريخي..
إنها لوحات فنية مأساوية -هزلية، يُعاد رسمها بنفس الألوان والأبعاد، وكأننا أمام متحف شمع للديمقراطية! كل مشهد محسوب بدقة، كل نظرة مصورة ببراعة، كل حركة موجهة لتقول: "انظروا كيف يتحمس الشعب من أجل المستقبل!" يا للحرفة الإخراجية الرائعة! إنه مسرح العبث السياسي في أبهى صوره؛ ممثلون غير مدفوعي الأجر، سيناريو مكتوب مسبقاً، جمهور يجبر على المشاهدة، ونقاد يصفقون بإيعاز! إنها الديمقراطية بمذاق المسرحيات المدرسية: نفس الحوارات، نفس الحركات، ونفس التصفيق الإلزامي، وفي النهاية كل شيء يقول: "انظروا.. الشعب يصنع قراره!" بينما الحقيقة المرَّة تهمس: "انظروا.. كم هو رخيص جداً ثمن المشهدية!" فأي وعي هذا الذي يحتاج إلى عجزة ومعاقين ليثبت وجوده؟ وأي شفافية تلك التي تحتاج إلى إخراج سينمائي يناقض الضمير الجمعي ليظهرها للعلن؟
الناخبون عندنا - أو ما تبقى منهم - قد تحولوا إلى كائنات أسطورية نادرة، أشبه بتلك الديناصورات التي تراها في متاحف التاريخ؛ تعرف أنها كانت موجودة يوماً ما، لكنك متأكد أنك لن ترى واحدة حية أمامك! إنهم أنواع قد ماتت بالفعل، ويندر مشاهدة هياكلهم خارج موائلها الطبيعية. ولكن المشهد الأكثر عبثية؟! الجمهور الجالس في المدرجات الخلفية، يشاهد هذه الكوميديا السوداء من خلف زجاج سميك، متكئً على كنبته، ممسكاً بكيس ورقي من الفشار، أو كوب شاي، وكأنه يشاهد مسرحية هزلية بعنوان "معاً ضد بعض"، ويعرف كل حواراتها مسبقاً، ويعرف كيف ستنتهي، لكنه مصر على متابعتها ليطمئن نفسه بأنه مازال شاهداً على شيء ما، حتى لو كان شاهداً على موته السياسي البطيء..
إنه يشاهد هذا المسرح السياسي بنظرة تملؤها الخبرة والدراية، وكأنه يقول: "يا عم ده أنا حافظ الفيلم من تلاتين سنة! غيروا الممثلين، لكنه نفس الحوار، ونفس الإخراج ونفس النهاية! الحمد لله الفشار طازة!" إنها مفارقة تثير الضحك والأسى في نفس الآن: مرشحون يعدونك بالجنة، وأنت تعرف أنك لن تحصل حتى على موقف سيارة! مرشحون يتصارعون على مقاعد، وأنت تتشاجر على مقعد في الميكروباص! مرشحون يعدونك بحياة أفضل، وأنت راض بنعمة شرب كوب شاي ساخن بالسكر! فيا ترى، من منّا يعيش في الواقع؟ ومن منّا يعيش في المسرحية؟
وفن اللامبالاة.. هو إبداع مصري خالص، والتحفة المصريّة التي تخطَّت الزمن! فإذا كانت الحضارات تخلِّف وراءها أهراماتٍ ومعابد، فإن المصريين في عصرنا الحالي قد أبدعوا تحفةً غير ملموسة ستُدرَّس في جامعات المستقبل: "فن اللامبالاة السياسية المتقَن"، إنه إرثٌ ثقافيٌ فاخر، صنعته أجيالٌ وراء أجيال تتوارثه وتطوره من الخبرة في التعامل مع الواقع.
فلقد تطورت "المقاطعة" من مجرد عدم ذهابٍ إلى صناديق الاقتراع، إلى فلسفة وجودية معقدة، كأنها "يوجا سياسية" التي تصل بالمرء إلى حالة "النيرفانا الانتخابية" - حيث يدرك بحكمة المؤمن بالقضاء والقدر أن صوته سيكون مجرد نقطة في محيط، لن تعود عليه إلا بالذنوب لاعتراضه على قضاء الله وقدره، فيقرر ألا يكون حتى هذه النقطة!
إنه ذلك التنوير المُرضي الذي يصل إليه المواطن بعد رحلةٍ من التأمل العميق: "لماذا أذهب لأختار بين وجهين لنفس العملة بنفس القيمة منذ سنين لم تتغير؟ لماذا أتعب نفسي في سباقٍ أعرف نهايته؟" فينتقل من حالة الغضب إلى السخط، ثم من السخط إلى اللامبالاة، وأخيراً إلى الرضا التام بعدم الفعل، فيهدأ ويرتاح ضميره وينام قرير العين، إنها رحلة الروح نحو السلام الداخلي!
فلقد حوَّل المواطن العادي عدم مشاركته إلى بيانٍ صامت، إلى احتجاجٍ راقٍ، إلى لوحة فنية تجسد "فن البقاء خارج اللعبة"، إنه يقول بكل براعة: "أنا لا أقاطع الانتخابات، أنا على الأقل أمارس حقي في أن تتركوني خارج المعادلة!"
وهكذا ينام المصري ليلته قرير العين، ضميره مرتاح لأنه لم يشارك في "اللعبة"، وحكمته ناضجة لأنه فهم القواعد دون أن يلعب، وروحه مطمئنة لأنه قبل بما لا يمكن تغييره، إنها اللامبالاة الذكية - أو "العبقرية السلبية" - التي تستحق أن تُدرج في قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية!
كما أننا لماذا نذهب، وهناك أوبرا فلسفية تُعرض يومياً على مسرح العقل الجمعي للمصريين! هذه الأوبرا الساخرة التي تقدم عرضاً احترافياً، تتحول فيه جميع قرارات المشاركات الانتخابية والسياسية إلى مونودراما تراجيكوميدية تتبارى فيها الحكمة مع السخرية، والواقع مع الخيال!
فهل أذهب لأدلي بصوتي؟! هذا ليس مجرد سؤال عابر، بل هو استفتاء وجودي يُعاد طرحه كل بضع سنوات كاختبار لقدرتنا على التصديق! ولنتأمل معاً ذلك الحوار المسرحي الذي يدور في رأس كل مواطن:
المشهد الأول: قسم التخفيضات!
"سأذهب لأدلي بصوتي. ولكن في أي قسم سأتسوق؟ في قسم مرشحي 'الحرية والكرامة' حيث الوعود مُعلَّبة بخصم 50٪ على الأمانات؟ أم في قسم 'مستقبل أفضل' حيث العروض تنتهي صلاحيتها مع انتهاء الانتخابات؟ أم أتجه لقسم 'المرشح المستقل' الذي يشبه تلك المنتجات الغريبة التي لا تعرف هل هي طعام أم دواء أم سم قاتل؟
يا إلهي! إنه سوبر ماركت السياسة: المرشح (الحر) يقدم وعوداً كبرجر بدون لحم! والمرشح (الديموقراطي) يعرض حلولاً كالمناديل المبللة - تنظف سطح المشكلة لكنها لا تعالج الجذور! والمرشح (المحافظ) يتكلم بلغة 'العروض الخاصة' - يعدك بالجنة وعندما تصل تكتشف أنها مجرد شقة إسكان وظيفي في العاشر من رمضان!
فالخيارات كلها مغرية كعلبة بسكويت مفتوحة في منتصف الليل.. تعرف أنها لن تشبعك، لكنك لا تستطيع مقاومة إلقاء نظرة!"
المشهد الثاني: قسم الحسابات!
"سأقضي يوم اجازتي في رحلة استكشافية أشبه بالذهاب إلى مدينة الملاهي، محاولاً الاستمتاع بمعادلة حسابية تجعل من العبث فناً واللا معقول منطقاً، ولكن بدلًا من الألعاب المسلية، سألعب "لعبة طابورالجنة" - ذلك الصف السحري الذي يعدك بالوصول إلى باب الفردوس، فتنسج أحلامك، ويعلو سقف طموحاتك، بينما أنت في الحقيقة تقف أمام ماكينة صراف آلي عاطلة!
سأستثمر في هذه المغامرة، وهنا تأتي المعادلة السحرية، فإذا كان الذهاب = طابور + شمس وتعب وإرهاق، والتصويت = ورقة + أمل، والنتيجة = إعلان تلفزيوني سبق مشاهدته آلاف المرات لمنتَج انتهت صلاحيته فإن: (الذهاب + التصويت) × النتيجة = وهم² + ضياع وقت³. إنها ليست معادلة عادية، بل هي "خوارزمية اللامبالاة الذكية" - حيث يصبح عدم الفعل هو الفعل الأذكى، وعدم المشاركة هي المشاركة الأعمق!"
المشهد الثالث: حكمة البقاء على الكنبة
في النهاية، يستلقي المواطن على أريكة من الخبرات المتراكمة، ويقرر بحكمة الأجداد: "لماذا أشارك في مسرحية وأنا أعرف كل حواراتها؟ لماذا ألعب لعبة وأنا أعرف من سيفوز مسبقاً؟ فالأفضل أن أحافظ على طاقتي.. فربما أحتاجها لمواجهة أزمات لقمة عيش أولادي غداً!"
إنها ليست مجرد مقاطعة.. إنها فلسفة المقاومة بالسلبية، فن البقاء خارج المعادلة، وبراعة اختيار عدم الاختيار! إن المواطن المصري لم يتوقف عن الاهتمام.. بل تخطى المرحلة إلى حالة أعلى من الوعي: "الوعي بعدم الجدوى!"..
فما أروع تلك اللحظات التي يتسابق فيها المرشحون على مقاعد البرلمان، بينما المقاعد الخلفية للجمهور شاغرة! إنها مسرحية كبرى، الممثلون متحمسون لأدوارهم التي تمتعهم، لكن الجمهور قرر أن يغيب! فلقد فهم المصريون أن السياسة أصبحت مثل مسلسل هابط طويل: تعرف بدايته ونهايته مسبقاً، والحبكة مفقودة، والأبطال يتغيرون لكن القصة تظل كما هي تافهة! والعجيب في الأمر أن هذا العزوف نفسه أصبح شكلاً من أشكال المشاركة! إنه احتجاج صامت، رسالة واضحة مضمونها: "نحن هنا، لكننا لسنا هنا!" إنه نوع من "الوجود الغيابي" أو "الغياب الحاضر" - إنها مصطلحات فلسفية معقدة لفعل بسيط: اللامبالاة!
وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نضحك على أنفسنا، فنحن أمة عظيمة تنتج الأفلام الكوميدية ببراعة، لكن "أعظم كوميديا سوداء نعيشها هي تلك المسافة الشاسعة بين الانتهازية القسرية في الفراغ، والواجب الكوني في المعنى".. إنها معادلة الحياة السياسية المصرية، فهل نلوم هؤلاء المتكئين على الكنبة؟ بالطبع لا! ففي النهاية، من يريد أن يشارك في معادلة يعرف نتيجتها الصفرية مسبقاً؟!
ملاحظة: هذه المقالة تقدم بروح السخرية والنقد الاجتماعي، وليس المقصود بها التقليل من أهمية المشاركة السياسية، بل تسليط الضوء على ظاهرة تستحق التأمل والمناقشة الجادة..
----------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش






