11 - 11 - 2025

اليهودي التائه

اليهودي التائه

كانت النكسة بالنسبة لجيلي بمثابة جرس إنذار ضخم، حين تفجرت أمام أعيننا الحقائق التي كانت غائبة عنا، وكنا نبحث مثل كل المصريين عن سر المصيبة التي ألمت بنا، وبينما توجه بعضنا علي الفور إلي ترك جامعاتنا والإلتحاق بالكليات العسكرية ( ومنهم كاتب هذه السطور)، كان هناك تيار جارف بين الشباب يريد أن يقترب أكثر من ذلك العدو الذي هزمنا "بغتة" (وفي الواقع ، وكما سأعرف بعد قراءة وجهد أنها لم تكن " بغتة")..

وبدأنا نبحث عن الكتب التي يمكن أن نجد فيها معلومات أكثر عن تلك الصورة النمطية الهزلية حول "اليهودي" التي اعتدنا عليها، وفوجئنا بشح المعلومات وضآلة الكتب التي يمكن أن ترضي فضولنا ونهمنا، فكان كل من له قريب في الخارج يتيح لنا ما لديه من كتب ونشرات، وتصدر الكاتب المصري محمود عوض الدعوة لمبدأ "اعرف عدوك"، وتدريجياً بدآت ملامح ذلك العدو تتشكل.

وفيما يتعلق بي، لم يكن الأمر مجرد معلومات المخابرات والإستطلاع التي كنت أقرضها قرضاً علي خط القتال في الجبهة، وإنما كل ما يتعلق بشخصية وفكر وثقافة ذلك العدو، وكنت أحمل كل إجازة ميدانية إلي ملجئي في الجبهة، ما يمكن أن يتوفر لي من إصدارات مترجمة وأجنبية.

وقد لاحظت، ربما بشكل مبكر جداً، أن هناك علاقة وثيقة بين الحركة الصيهونية وبريطانيا العظمي، لم يكن "وعد بلفور" أخرها، فقد أتيحت لي مذكرات لتشرشل وعن تشرشل حول العلاقة الوثيقة التي ارتبط فيها مع الصهاينة وااليهود بشكل عام، وأدركت أن هناك علاقة حب وكره بين المجتمع الإنجليزي واليهود، وجدت تمثيلاً لها ليس فقط في كتب السياسة والسير الشخصية، وإنما في الأدب، ووجدت أنه لم يكن غريباً أن المسرح البريطاني شهد في القرن السادس عشر مسرحيتين شهيرتين، لإثنين من أعظم كتاب بريطانيا، وهما كريستوفر مارلو ، ووليم شكسبير ،حيث كتب الأول مسرحية "يهودي مالطا" ، وكتب الثاني مسرحية "تاجر البندقية" .

تناول الكاتب الإنجليزي كريستوفر مارلو Christopher Marlowe في مسرحيته الشهيرة "يهودي مالطة" شخصية "باراباس" على أنه نموذج لليهودي الجشع، الخائن، القاسي القلب.

وقد ولد الكاتب في ٢٦ فبراير ١٥٦٤ في كانترفري، كنت، وتوفي مبكراً في ٣٠ مايو ١٥٩٣، ويعد رائداً من رواد المسرح الإنجليزي قبل شكسبير، وترك بصمة كبيرة علي المسرح الإنجليزي رغم عمره القصير، وكان أسلوبه يعتمد علي النصوص التي تصور البطولة من خلال شخصيات قوية وصراعات فلسفية وأخلاقية، كما غلبت علي أسلوبه لغة الشعر، حيث استخدم تيار الشعر الحر (Blank Verse).

ومن أشهر أعماله مسرحية "دكتور فاوست" عن العالم الذي يبيع روحه للشيطان، مقابل الحصول علي السلطة والمعرفة، ومسرحية "تامبورلين الأعظم" حول طاغية أسطوري في سياق معقد.

وقد تميزت مسرحياته بشكل عام، بتصوير الصراع بين الإنسان والقوى الكبرى مثل:  الدين، السلطة، الطموح الشخصي ، وكذلك الجوانب المثيرة للجدل بجرأة مثل : الدين، الجنس، السياسة؛ كان يُتهم أحيانًا بالتجديف والزندقة.

وقد قُتل مارلو في سن 29 فقط، في ظروف غامضة (ربما نتيجة مؤامرة سياسية أو نزاع شخصي) .

باختصار، كريستوفر مارلو هو أحد أعظم كتاب المسرح الإنجليزي في عصر النهضة، ومبتكر الأسلوب الشعري الحر، وصانع شخصيات بطولية ومعقدة، مثل اليهودي في The Jew of Malta، وهو ما يجعل أعماله مركزية لدراسة الأدب الغربي وصور الأقليات في ذلك الزمن..

القراءة المعمقة في تلك المسرحية، توضح أن شخصية اليهودي "باراباس" تمثل رمزاً للشر المطلق والطمع المادي، بلا عمق إنساني أو مبرر نفسي مقنع، وهي شخصيته تقترب من الكاريكاتير الديني والسياسي أكثر من كونها شخصية إنسانية واقعية.

لقد أراد "باراباس" الإنتقام بعد أن صادرت سلطات مالطا أمواله، حيث تتحول رغبة الإنتقام تدريجياً إلي جنون تدميري، يقتل، يخدع، ويدبر المؤامرات بوحشية دون أن يظهر عليه أي ندم أو تأمل أخلاقي.

أن الكاتب  يصور الشر بطريقة فجّة تعتمد بشكل كبير علي المفارقة (farce)، كما قال ت. س. إليوت — "أي أقرب إلى الملهاة السوداء منها إلى التراجيديا"، حيث تتحرك الشخصية الرئيسية وسط عالم ساخر، قاسٍ، بلا خلاص روحي.

وقد كان شكسبير في معالجته لشايلوك في "تاجر البندقية"، يقدم يهودياً أخر ، لكن بشكل أكثر عمقاً وتعقيداً إنسانياً من شخصية "باراباس" ، فهو يقدمه بشكل أساسي كضحية للاضطهاد الديني والإجتماعي في البندقية، بشكل يجعلها تجمع ما بين الوحشية، والكرامة المجروحة ، فلم يكن دافعه للإنتقام من أنطونيو هو المال فقط، وإنما ما شعر به من إذلال ديني وإجتماعي، ولم يكن رمز إنتقامه (رطل اللحم) سوي رمز لعدالة يائسة في وجه ظلم المجتمع المسيحي له .

لقد كان شكسبير أيضاً يتعامل مع "شايلوك" بمزيج مرير من السخرية والتعاطف، لذلك فهو مثلاً يضع على لسان شايلوك خطاباً شهيراً عن إنسانية اليهود: "أليس لليهودي عينان؟ ... إذا وخزتمونا ألا ننزف؟".

هنا يتحول شايلوك من صورة نمطية إلى صوت إنساني معذّب، وهي صورة المظلومية التي سيحترفها فيما بعد ساسة الصهيونية، خاصة بعد إضافة مجازر النازي في الحرب العالمية الثانية .

أي أن "مارلو" يصنع من "اليهودي" رمزاً شيطانياً للشر والطمع، يخدم أغراضاً درامية وسخرية سياسية (بما يجعله قابلاً للإضطهاد والكراهية) ، بينما شكسبير يصنع من شايلوك كائناً إنسانياً مأساوياً، يعبّر عن قسوة المجتمع وانكسار الفرد (بما يجعله ضحية قابلاً للتعاطف والشفقة) .

وبهذا ينتقل فارق التعامل الأدبي بين النصين  من التحامل الديني إلى التحليل الإنساني.

وبإختصار يقدم  كريستوفر مارلو في "يهودي مالطا" شخصية "باراباس" بوصفه تجسيداً للشر المطلق والجشع، ولكن في صورةٍ كاريكاتيرية تفتقر إلى العمق الإنساني، إذ يتحرك فقط بدافع الانتقام والمال داخل عالمٍ ساخر قاسٍ، أقرب إلى الملهاة السوداء منه إلى المأساة، أمّا شكسبير في تاجر البندقية فيرسم شخصية شيلوك بقدرٍ كبير من الإنسانية والتعقيد النفسي؛ فهو مرابٍ قاسٍ، لكنه أيضاً ضحية لاضطهادٍ ديني واجتماعي، ويعبّر عن كرامة مجروحة ورغبة في عدالةٍ يائسة.

وهكذا يتحول "اليهودي" عند مارلو إلى رمز شيطاني للشر، بينما يصبح عند شكسبير رمزاً للمأساة الإنسانية وصورة لظلم المجتمع وتناقضاته الأخلاقية ، وسوف نجد أن المقارنة بين يهودي مارلو في مسرحية "يهودي مالطا "  (Barabas) ويهودي شكسبير في مسرحية "تاجر البندقية" (Shylock) من أكثر المقارنات الكلاسيكية في النقد الأدبي الإنجليزي، لأنها تكشف اختلافاً عميقاً في الرؤية الفنية والإنسانية لكل من مارلو وشكسبير..

وكأن "باراباس" الذي تاه في مالطا وقد فقد إنسانيته واعتباره، قد وجد في "شايلوك " شفرة النجاة، كي تتسلل شخصية اليهودي المعذب المضطهد تدريجياً منذ القرن السادس عشر، ثم  تتحول في مطلع القرن الواحد والعشرين إلي شخصية دموية تأخذ من الشخصيتين الأدبيتين السابقتين أسوأ ما فيهما٫ حيث ينجح "نتنياهو " في محو صورة "المظلومية" تدريجياً، ويكشف القناع عن الشخصية الصهيونية الحقيقية، فهو "باراباس" الغاضب المدمر بلا أخلاق، دون ما قد يحمله "شايلوك" من بعض الحس الإنساني .
---------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

اليهودي التائه