08 - 11 - 2025

قناع الحداثة وحق المصري أن يكون نفسه

قناع الحداثة وحق المصري أن يكون نفسه

أثار تصريح سمر (بدون ذكر اسم أبيها)، وكل سمر مثلها، الذي قالت فيه: "صورة الرجل وزوجته بالجلباب في المتحف المصري ليست مصر ولا تمثلها.. إحنا أشبه من فتيات باريس بالفساتين"، جدلا واسعا في المجال العام المصري. هذا التصريح لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد رأي شخصي حول "الذوق العام" أو "الهوية الجمالية"، بل هو – من منظور علم الاجتماع الثقافي ونظرية ما بعد الاستعمار – تعبير عن بنية فكرية متجذرة في الوعي الجمعي للنخب التي تأثرت بالحداثة الغربية، وأعادت إنتاج التراتبية الاستعمارية بين "المتحضر" و"المتخلف"، بين "المدني" و"الريفي"، وبين "الحديث" و"الأصيل".

في المشهد الذي علقت عليه سمر، يظهر رجل مصري وزوجته بملابس ريفية تقليدية أثناء زيارتهما المتحف الكبير. هذه الصورة تحمل رمزية قوية: دخول الطبقات الشعبية إلى فضاء ثقافي كان لعقود محجوزا للصفوة أو هكذا تظن الصفوة. غير أن تصريحها يعيد إنتاج الفصل الطبقي والثقافي بين "المصري الأصيل" و"المصري المقبول حضاريا" في نظر النخب الحديثة.

فبدل أن ينظر إلى هذه الصورة بوصفها دليلا على انفتاح المؤسسة الثقافية على الشعب، جرى تصويرها كـ"تشويه" لوجه مصر الحضاري. هنا، تتجلى آليات "الاستشراق الداخلي"، حيث تعاد صياغة النظرة الاستعمارية داخل المجتمع نفسه، إذ تنظر النخبة إلى أبناء بلدها بعين المستعمر لا بعين الشريك في الهوية.

وفقا لإدوارد سعيد تمارس النخبة المتأثرة بالغرب نوعا من "الاستلاب الثقافي"، إذ تنظر إلى ثقافتها المحلية باعتبارها متخلفة أو غير مكتملة، بينما ترى في الثقافة الغربية باعتبارها النموذج الأعلى للتمدن والجمال.

تصريح سمر يجسد هذا المنطق، فهو يعيد مركزية "باريس" و"الفستان" كرموز للحداثة والرقي، في مقابل "الجلباب" الذي يحمل دلالات التخلف والرجعية. هنا تتحول معايير الجمال والتمثيل الوطني إلى مرآة للغرب، لا إلى انعكاس للتنوع الاجتماعي والثقافي داخل مصر.

وهذا ما يسميه هومي بابا بـ"التهجين الثقافي" (Cultural Hybridity)، حيث تتبنى النخبة في العالم المستعمر رموز المستعمر وتسعى لتقليده دون أن تكون جزءا منه فعليا، مما يولد حالة من الانقسام الهوياتي. فالمصري في هذا الخطاب لا يكون "مصريا بما هو عليه"، بل بما يقترب من صورة "الآخر الأوروبي".

وكما يذهب فرانز فانون، إلى أن أخطر أشكال الاستعمار ليست تلك التي تمارس بالقوة العسكرية، بل تلك التي تترسخ في الوعي واللغة والقيم.

إن تصريح سمر يعكس هذا النوع من الاستعمار الرمزي، الذي يشرعن دون وعي فكرة أن "التمثيل الحضاري" لا يتحقق إلا عبر نفي الرموز الشعبية وارتداء أقنعة الحداثة الأوروبية.

إنها بتعبير فانون لحظة "رفض الذات"، حيث يصبح التحرر من التخلف مرادفا للتحرر من الهوية. ومن هنا، يعاد إنتاج التراتبية الاستعمارية القديمة ولكن داخل المجتمع نفسه:

المدن مقابل القرى، التعليم العالي مقابل البساطة، الزي الغربي مقابل الجلباب.

من منظور علم الاجتماع الثقافي، فالهوية الوطنية ليست وحدة صلبة بل فسيفساء من الانتماءات الفرعية والرموز المتنوعة. مصر ليست فقط "القاهرة الحديثة" ولا "القرى الفقيرة"، بل مزيج حي من الاثنين.

حين يتم استبعاد فئة من التمثيل الوطني بدعوى أنها "لا تشبهنا"، فنحن لا نمارس نقدا ثقافيا بل إقصاء طبقيا مغلفا بمقولات الجمال والتحضر.

إن الرجل بالجلباب في المتحف، يا سمر، لا يمثل تهديدا لـ"صورة مصر"، بل استعادة لها في تنوعها وتاريخها الاجتماعي الممتد. فالمتحف المصري الكبير لا يفترض أن يكون مساحة لتجميل الهوية، بل فضاء لتأملها بكل تناقضاتها وثرائها.

إن تحليل الخطاب من منظور ما بعد الاستعمار يقتضي تفكيك اللغة ذاتها. فاستخدام مفردات مثل "لا تمثل مصر" أو "إحنا أشبه بفتيات باريس" يكشف عن بنية لغوية تراتبية: "نحن" مقابل "هم"، "الجميل" مقابل "القبيح"، "المدني" مقابل "البدائي".

هذا الانقسام هو ما حاول مفكرون مثل إدوارد سعيد وسبيفاك تفكيكه حين تحدثوا عن "المستعمر الذي لا يستطيع الكلام" (Subaltern).

ففي هذه الحالة، الرجل البسيط وزوجته ليس لهما صوت، يتم الحديث عنهما لا من خلالهما. صورتهما تستغل لتأكيد نقاء "الذوق الطبقي" للنخبة، لا لتوسيع معنى "من هو المصري".

ختاما يمكن القول إن تصريح سمر ليس مجرد رأي عابر، بل تجسيد لخطاب طويل من الاستلاب الثقافي وإعادة إنتاج التراتبية التي زرعها الاستعمار الغربي في المجتمعات العربية.

إن نقد هذا التصريح لا يعني فقط مجرد الدفاع عن الجلباب بقدر ما يعني الدفاع عن حق المصري في أن يكون نفسه، في أن يدخل المتحف بملابسه وهويته دون أن يطلب منه ارتداء "قناع الحداثة".

فالمتحف، مثل الوطن، لا يكتمل إلا حين تتجاور فيه كل الصور، من الجلابية إلى الفستان، دون خوف أو خجل.
-------------------------------
بقلم: د. مجدي عبدالحافظ
* نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك


مقالات اخرى للكاتب

قناع الحداثة وحق المصري أن يكون نفسه