تدور رحى معركة انتخابية مصيرية هذا الشهر، هي معركة الصناديق والشرعية.. فالانتخابات البرلمانية المصرية على محك الاختبار المصيري، فهي لا تُختزل في مجرد استحقاق برلماني روتيني، بل تتحول إلى محطة فارقة في المشهد السياسي المصري، فتحت القبة البرلمانية، تتداخل أسئلة مصيرية حول نزاهة الاقتراع، وجوهر الدور التشريعي، وقدرته على استيعاب وتقديم مطالب الإصلاح، وحدود المناورة السياسية في ظل نظام يبدو حريصاً على توجيه دفة اللعبة السياسية بمفرده.
هذه الانتخابات لا تجري في فراغ، بل تأتي في خضم عاصفة إقليمية ودولية متشابكة، وحالة اقتصادية طاحنة، ومشهد اجتماعي متأزم، ولكن الثقل الحقيقي لهذا الاستحقاق ينبع من توقيته الاستراتيجي: فيُنظر إلى هذا الاستحقاق الانتخابي على أنه محك حقيقي لطبيعة التوجهات السياسية المستقبلية في مصر، فهو يشكل المدخل الرئيسي للمرحلة الانتقالية المحتملة مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2030، مما يضعه في قلب معادلة المستقبل السياسي لمصر، فما هو الدور الوطني المنوط بالبرلمان في هذه المرحلة الحرجة؟
جدليات شرعية العملية الانتخابية
تكشف الوقائع عن مأساة ممنهجة للديمقراطية على مذبح الإقصاء، حيث تم إقصاء 181 مرشحاً معارضاً ومستقلاً ليدفعوا ثمن معارضة غير مرغوب فيها، في مشهد يكرس أزمة الشرعية السياسية، وينتهك أبسط معايير المنافسة النزيهة، فبين عشية وضحاها، وجدوا أنفسهم خارج السباق الانتخابي، في عملية تطهير سياسي تذكرنا بأحلك أيام الأنظمة الشمولية.
وتتجاوز قضية الإقصاء مجرد أرقام لتتحول إلى دراما إنسانية تفضح التناقض التشريعي، فقضية النائب السابق هيثم الحريري تمثل نموذجاً صارخاً لهذه التناقضات، حيث استُبعد بذرائع واهية تتعلق بالخدمة العسكرية، رغم تقديمه وثيقة رسمية من وزارة الدفاع تثبت استثناءه القانوني - وهي نفس الوثيقة التي أجازت له دخول البرلمان عام 2015 بنجاح، والأكثر إثارة للجدل أن قانون منح الجنسية المصري يسمح لأي أجنبي حصل على الجنسية منذ خمس سنوات فقط بالتقدم للانتخابات، بينما يُحرم مواطنون مصريون الأصل من خوض غمار المنافسة، وهذه المفارقة تطرح سؤالاً محرجاً: أيهما أكثر ولاءً لمصر.. المصري ذو الأبوين المصريين والمولود على أرضها أم الأجنبي الذي منح الجنسية منذ خمس سنوات؟
ولم يسلم من عملية الإقصاء الشامل سوى الموالين، بينما طالت الحملة شخصيات عامة وبرلمانيين سابقين وأعضاء أحزاب معارضة، في رسالة واضحة أن البرلمان القادم سيكون "نادياً مغلقاً" للحزب الحاكم وأذرعه، ولن يسمح بدخول أي صوت ناقد أو مستقل، وهذه الممارسات تطرح أسئلة وجودية حول شرعية العملية الانتخابية برمتها، تلك الشرعية المفقودة قبل ولادتها، وتؤكد أن ما يسمى بالتعددية السياسية في مصر ليست سوى واجهة زائفة لديكتاتورية مغلَّفة بغلاف ديمقراطي أمام المجتمع الدولي، فكيف يمكن الحديث عن نزاهة الانتخابات وهي تبدأ باستبعاد كل من يعترض على سياسات النظام؟
في النهاية، تثبت أزمة الإقصاء أن النظام المصري لا يزال يعتبر المعارضة السياسية تهديداً يجب تحييده، وليس ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها، لترسيخ الشرعية وجودة القرارات، فيتم إقصاء المعارضة في تحول إستراتيجي من مقولة "شركاء لا خصوم" التي تكرست في عهد الرئيس مبارك، ثم تم الآن التخلي عنها لتصبح "لا شركاء ولا خصوم.. فقط أتباع".
وفي مشهد يكرس أحادية القرار السياسي، واحتكار السلطة، تتحول الانتخابات البرلمانية إلى مسرح "الهيمنة المُعلبة" حيث تختزل العملية الديمقراطية برمتها في قائمة وحيدة هي "القائمة الوطنية من أجل مصر"، التي تجوب مضمار السباق الانتخابي من دون منافس حقيقي، بعد أن أقصت السلطات كافة القوائم المنافسة في عملية تشبه التطهير السياسي الممنهج.
ولا يكتفي النظام بتكريس هذه الهيمنة في الانتخابات الحالية، بل يسعى لجعلها نموذجاً متكرراً، كما حدث في انتخابات مجلس الشيوخ أغسطس 2025، حيث فازت القائمة الوطنية بجميع مقاعد نظام القوائم (100 مقعد) بالتزكية، وحصد مرشحوها نحو 95٪ من المقاعد الفردية، في إحصائية تكشف أن "المعارضة المسموح بها" لا تتعدى دور الكومبارس في مسرحية الانتخابات، وتحولت "القائمة الوطنية" إلى أداة لإضفاء الشرعية الشكلية على برلمان يفتقد إلى التمثيل الحقيقي، حيث تتحول التعددية السياسية من مبدأ ديمقراطي إلى مجرد واجهة زائفة تختفي خلفها هيمنة النظام المطلقة على مقدرات المشهد السياسي.
هذه الهيمنة الكاسحة تدفع نحو برلمان منقوص الشرعية، يتحول من مجلس للمناقشة والحوار إلى مجرد "ختم مطاطي" لقرارات السلطة التنفيذية، مما يفقده دوره الرقابي والتشريعي الحقيقي، ويفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها، وفي النهاية، لم يعد المشهد الانتخابي سوى ديكتاتورية مغلفة بغلاف ديمقراطي، حيث تتحول صناديق الاقتراع إلى مجرد ديكور في مسرحية سياسية يكتب نصها ويخرجها النظام بمفرده.
وفي وضح النهار، تُختطف الديمقراطية المصرية تحت سقف البرلمان نفسه، فبين دفتي "القانون"، تختفي أبسط حريات التعبير والتجمع السلمي، في عملية تحويل مُمنهج للقوانين من أدوات لتنظيم الحياة العامة إلى أسلحة لقمع المشاركة السياسية، فتُشكل ثلاثة قوانين معاً "ثلاثية الخنق" التي تحكم قبضة النظام على الحريات؛ قانون التظاهر (107 لسنة 2013)، الذي يحوِّل الحق الدستوري في التجمهر السلمي إلى جريمة عقوبتها السجن، وقانون مكافحة الإرهاب (94 لسنة 2015)، الذي يوسع تعريف الإرهاب ليشمل كل معارضة سياسية سلمية، وقانون الجمعيات الأهلية، حيث يحول منظمات المجتمع المدني إلى أذرع تنفيذية للحكومة..
وتمثل قضية البرلماني السابق أحمد الطنطاوي وأعضاء حملته النموذج الأكثر وضوحاً لهذه الآلة القمعية، فمجرد الإعلان عن نية خوض الانتخابات الرئاسية تحول إلى "جريمة" تستدعي الملاحقة القضائية والسجن، في رسالة واضحة أن المنافسة الحقيقية على السلطة أصبحت "خطاً أحمر" في نظام لا يتسع لسوى صوت واحد، وتكشف هذه الممارسات عن الفجوة الهائلة بين النص الدستوري الذي يكفل الحريات، والتطبيق العملي الذي يخنقها، فما قيمة مادة دستورية تنص على حرية التعبير إذا كان القانون يجرّم كل من يعبِّر؟
النتيجة النهائية لهذا التشريع المقيد هي تحويل العمل السياسي من حوار مجتمعي حيوي إلى "تمثيلية" مسرحية، يتحول فيها البرلمان من ممثل للشعب إلى أداة طيعة في يد السلطة التنفيذية، وتتحول المعارضة من رقابة ضرورية إلى نشاط محفوف بالمخاطر، وهكذا تتحول مصر من جمهورية إلى "ملكية دستورية" بلا تاج أو عرش، حيث يحكم القانون لا لتحقيق العدالة، بل لتحصين هيمنة النظام وإسكات كل صوت معارض..
دور البرلمان بين الشكل والجوهر
في مفارقة صارخة، يتحول البرلمان - الذي يفترض أن يكون قبلة التشريع وقلب الرقابة النابض - إلى مجرد ديكور ديمقراطي يفتقد لأبسط مقومات الاستقلالية، فواقع مرير يكشف تحوّل المجلس النيابي من ممثل حقيقي لإرادة الشعب إلى أداة طيعة في يد السلطة التنفيذية، تنتج "شرعية شكلية" لقرارات مُسبقة الصنع، وأصبح البرلمان أشبه بآلة للتصديق "ختم مطاطي" تعمل بكفاءة مذهلة في تمرير القوانين، لكنها تعجز تماماً عن ممارسة الدور الرقابي، فتشريعات مقيدة للحريات تمرّر بسرعة البرق، في جلسات أشبه بطقوس شكلية تخلو من النقاش الجاد، وتفتقد إلى عمق التحليل، وتغيب عنها المعارضة الحقيقية.
ويُختزل دور البرلمان في مشهد مأساوي: ممثلون يرفعون الأيدي للتصويت، لكنهم يعجزون عن رفع أصواتهم بالاعتراض، ومؤسسة دستورية تفقد روحها لتصبح مجرد واجهة تلمِّع صورة النظام دولياً، بينما تُفرِّغ المضمون الديمقراطي من محتواه الحقيقي، ولم يعد وصف "الختم المطاطي" مجرد استعارة بلاغية، بل أصبح واقعاً ملموساً يشهد به كل مراقب، فهو برلمان يصدّق ولا يراقب، ويجيز ولا يحاسب، ويشرِّع ولا يناقش - في سيناريو يتكرر يومياً تحت قبة المجلس، والخلاصة المأساوية لهذا المشهد هي تحوّل الدستور إلى مجرد حبر على ورق، وتحوّل البرلمان إلى مسرح يقدم عروضاً ديمقراطية شكلية، بينما تتراجع الثقة الشعبية في المؤسسات التشريعية إلى الحضيض، فما قيمة دستور يضمن الفصل بين السلطات في ظل برلمان يفتقد للإرادة والاستقلالية؟
وفي مشهد يكرّس تحوّل العملية السياسية إلى سوق للمزايدات، تبرز ظاهرة خطيرة تهدد جوهر الديمقراطية؛ هي سيطرة رجال الأعمال على المشهد الانتخابي، فالقائمة الوطنية من أجل مصر التي تقودها أحزاب السلطة، تحوّلت إلى نادٍ حصري لأثرياء السياسة، حيث يحتشد نحو 20 رجل أعمال من كبار المستثمرين، في مؤشر على تحوّل البرلمان من ممثل للشعب إلى نادٍ لمصالح رجال المال.
ولم تعد الكفاءة أو التمثيل الشعبي معياراً للوصول إلى المقعد البرلماني، بل تحوّلت المقاعد إلى سلعة تباع وتشترى في سوق الانتخابات، فظاهرة "التجارة بالنيابة" لم تعد محض شعار، بل واقعا ملموسا تشهد عليه القوائم الانتخابية التي يطغى عليها أصحاب رؤوس الأموال على حساب الكفاءات المستقلة، ويتحول البرلمان من بيت خبرة إلى بيت مال، وفي هذا المشهد الكارثي، نجد البرلمان ساحة لتصفية حسابات الأعمال، حيث تختفي القضايا الوطنية الكبرى وراء مصالح الشركات والاستثمارات، ولم يعد المجلس النيابي ساحة للنقاش حول قضايا الوطن، بل تحوّل إلى "بورصة" لتداول المصالح وصفقات الأعمال، فكل مقعد برلماني أصبح استثماراً يجب أن يحقق عوائد، وكل قرار تشريعي تحوّل إلى ورقة مساومة، فأصوات الناخبين تذوب في موازنات الحملات الانتخابية الضخمة، والبرامج الانتخابية تتحول إلى وعود تجارية أكثر منها سياسية.
وفي تحوّل دراماتيكي يوثّق اختطاف الحياة النيابية، تتحوّل مقاعد البرلمان المصري من منصة لتمثيل المواطن إلى سلعة في سوق المال السياسي، والأرقام تكشف قصة صادمة عن مسار تحوّل البرلمان إلى "نادٍ مغلق" لأثرياء البلاد، فبرلمان 2010 كان عدد رجال الأعمال 30 رجلاً بارزاً، معظمهم من الحزب الوطني المنحل، وبرلمان 2015 كان به 91 نائباً من خلفيات الأعمال (40 أصحاب شركات، 28 رئيس مجلس إدارة)، وبرلمان 2020 سيطرت عليه سيطرة شبه كاملة من القوائم المدعومة حكومياً، أما برلمان 2025 فيوجد 8 رجال أعمال على رؤوس القوائم فقط، بالإضافة لعدد كبير في المقاعد الفردية.
النتيجة الحتمية لهذا الغزو المالي هي إفراغ العملية الديمقراطية من مضمونها، وتحويلها إلى مجرد غطاء لشرعنة هيمنة النخب الاقتصادية، فما عاد البرلمان يمثل الشعب، بل أصبح ممثلاً لتحالفات المصالح وصفقات التجارة، والأخطر من ظاهرة سيطرة رجال الأعمال هو تحوّلها إلى نظام حكم غير معلن، حيث تذوب الحدود بين السلطة والثروة، وتصبح القرارات الوطنية رهينة المصالح التجارية، وهذا يعني أننا أمام ولادة "أوليغارشية مصرية" تتحكم بمقدرات البلاد من خلف ستار الديمقراطية الشكلية، وهكذا تتحول العملية الانتخابية من أداة لتداول السلطة إلى آلة لتركيز الثروة والنفوذ، في سيناريو يكرّس ديمقراطية الأثرياء ويُقصي فقراء التمثيل، في سيناريو يكرس مقولة "السياسة لمن يملك ثمنها".
وفي مشهد آخر يكرس أزمة التمثيل السياسي الحقيقي، تتحول الأحزاب المصرية من منافسين في الساحة السياسية إلى مجرد "كومبارس" أو "ديكور" في مسرحية الانتخابات، فالتعددية الحزبية التي يفترض أن تكون تعبيراً عن تيارات فكرية متنوعة، تتحول إلى واجهة زائفة تختفي وراءها هيمنة النظام المطلقة، وتكشف تصريحات القيادات الحزبية عن عمق الأزمة، كما في اعتراف المتحدث الرسمي لحزب الشعب الجمهوري بأن "التحالف انتخابي وليس سياسيا"، وهذه العبارة التي تبدو بريئة، تمثل في واقعها اعترافاً صارخاً بأن هذه التحالفات ليست سوى تجمّعات وقتية تفتقد لأي رؤية سياسية أو برنامج حقيقي.
ولم تعد الأحزاب السياسية قادرة على تمثيل التيارات الفكرية الحقيقية في المجتمع، بل تحولت إلى مجرد أسماء فارغة تسبح في فلك النظام، فالحزب الذي لا يملك رؤية مستقلة، ولا يستطيع التأثير في صنع القرار، ليس سوى "كيان وهمي" يضفي شرعية زائفة على المشهد السياسي، ويبدو المشهد وكأن النظام يقدم عروضاً ديمقراطية شكلية، حيث الأحزاب حاضرة في الإعلام، لكنها غائبة في غرف صنع القرار، ومشاركتها في الانتخابات تشبه مشاركة الممثلين في مسرحية أدوارها محددة، ونصوصها مكتوبة مسبقاً، وتأثيرها على الجماهير صفري وفي صنع القرار معدوم، وتلك هي النتيجة النهائية.
الخلاصة المأساوية هي برلمان يفتقد إلى التعددية السياسية الحقيقية، حيث تذوب الفروق الأيديولوجية في بوتقة الولاء للنظام، فما قيمة تعددية حزبية إذا كانت كل الأحزاب تردد نفس الخطاب وتدعم نفس السياسات؟ وهكذا تتحول الحياة الحزبية من أداة للتعبير عن تيارات المجتمع إلى مجرد ديكور ديمقراطي يخفي وراءه نظاماً أحادي القرار، في سيناريو يكرس مقولة "كل الخيارات متاحة، طالما كانت تابعة للنظام".
السياق الأوسع وأهمية الانتخابات الحالية
البرلمان القادم يحمل في جعبته مفتاحاً لمستقبل البلاد.. فهل سيكون أداة لتمديد السلطة أم قائداً للمرحلة الانتقالية؟ حيث تتحول الانتخابات البرلمانية الحالية من مجرد استحقاق روتيني إلى محطة مصيرية تحمل في طياتها قدر مصر السياسي لما بعد عام 2030، فالبرلمان المنتخب سيكون أمام مفترق طرق تاريخي؛ إما أن يتحول إلى أداة لتمديد ولاية الرئيس عبد الفتاح السيسي عبر تعديل دستوري، أو أن يتحمل مسؤولية قيادة أول انتقال سلمي للسلطة في حقبة ما بعد 2011.
وفي مسار سيناريو التمديد، سيشهد البرلمان تحويلاً كاملاً من مؤسسة تشريعية إلى "مطاطة دستورية" تمدد للرئيس ولايته، في سيناريو يشبه ما حدث في التعديلات الدستورية السابقة، وهذا الخيار يعني استمرار النموذج القائم وتجميد أي أمل في التغيير السلمي لعقد آخر، أما المسار الثاني فيكشف عن اختبار حقيقي لجدية النظام في الالتزام بالدستور، حيث يتحول البرلمان إلى منصة لإدارة المرحلة الانتقالية والإشراف على عملية تداول السلطة، وهذا السيناريو يضع البرلمان أمام تحدٍ تاريخي لم يشهده منذ عقود.
والتحدي الأكبر يتمثل في استقلالية البرلمان وقدرته على اتخاذ قرارات مصيرية بعيداً عن هيمنة السلطة التنفيذية، فبرلمان مُسيس ومُوجه لن يكون سوى أداة طيعة في يد النظام، بينما يحتاج الأمر إلى برلمان وطني حقيقي يمثل إرادة الشعب، فهذه الانتخابات ليست مجرد منافسة على مقاعد برلمانية، بل هي معركة على مستقبل الوطن.. فإما أن تفتح الباب أمام انتقال ديمقراطي حقيقي، أو تُغلق نهائياً بوابة الأمل في التغيير السلمي، والسؤال المصيري: هل يستطيع البرلمان أن يكون مستقلاً بما يكفي لاتخاذ القرار التاريخي؟
وفي واحدة من أشد مفارقات النظام السياسي المصري وضوحاً، يبدو المشهد كما لو أن البلاد تعيش تحت حكم نظامين متوازيين: نظام يخاطب العالم بلغة الإصلاح والديمقراطية، ونظام آخر يخاطب شعبه بلغة الإقصاء، فبينما تتبارى الدبلوماسية المصرية في كسب رضا الغرب عبر "الشراكة الاستراتيجية الشاملة" مع الاتحاد الأوروبي، تنقلب الآلة الأمنية في الداخل لتمارس أبسط أشكال القمع السياسي، والوجهان بروباجاندا للخارج وقبضة حديدية للداخل، ويكشف استبعاد المرشحين المعارضين عن الفجوة الساحقة بين ما تعلنه الدولة على المنصات الدولية وما تمارسه في الواقع، فالمؤتمرات الصحفية المشتركة مع المسؤولين الأوروبيين تتحول إلى مسرح لتلميع الصورة، بينما تغلق قاعات اللجان الانتخابية أبوابها في وجه أي صوت معارض، إنه فن إتقان لعبة "الازدواجية السياسية"، حيث تُستخدم العلاقات الدولية كورقة تبرير للممارسات القمعية، فالشراكة مع الاتحاد الأوروبي تتحول من فرصة للإصلاح إلى غطاء لاستمرار سياسات الإقصاء والتهميش، فلم تعد الديمقراطية في مصر مبدأً تُدار به الشؤون الداخلية، بل أصبحت سلعةً للتصدير الخارجي فقط، فما يُقدم للخارج على أنه "إصلاح سياسي" يتحول في الداخل إلى مجرد شعارات جوفاء تكرس هيمنة النظام وتغيّب الإرادة الشعبية.
بينما المجتمع الدولي يترنح بين التطبيل والتواطؤ، وعند وضع هذا التناقض أمام مرآة حقيقية، فإما أن يكون المجتمع الدولي شريكاً حقيقياً في دفع مصر نحو الإصلاح، أو أن يتحول إلى شاهد زور على مسرحية ديمقراطية تفتقد إلى أبسط مقومات المصداقية، وذلك يتوقف على المصالح، وهكذا يعيش النظام المصري في حالة انفصام سياسي: يرفع شعار الديمقراطية في بروكسل، ويمارس الإقصاء القانوني في القاهرة، ويكرّس ازدواجية المعايير التي قد تتحول مع الوقت من تكتيك سياسي إلى سمة دائمة للدولة المصرية..
كما تشير الأرقام إلى انخفاض حاد في نسبة المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، حيث العزوف الانتخابي وأزمة المصداقية، فبلغت نسبة المشاركة في انتخابات مجلس الشيوخ 2025 إلى 17.1٪ فقط من إجمالي المسجلين في قاعدة بيانات الناخبين البالغ عددهم 69.3 مليون ناخب، وهذا يعكس أزمة ثقة عميقة بين الجمهور والنظام السياسي بأكمله.
والخلاصة، أن الانتخابات البرلمانية 2025 تمثل المفترق التاريخي لمستقبل مصر، فليست الانتخابات البرلمانية مجرد استحقاق انتخابي عابر، بل هي معركة مصيرية تحدد وجه مصر لعقود قادمة، وهذه الانتخابات تمثل الاختبار الحاسم الذي سيكشف إن كان النظام السياسي المصري قادراً على تجاوز نموذج "الديمقراطية الشكلية" التي تحوّلت إلى مسرحية سياسية مكررة.
وفي مشهد يعكس عمق الأزمة، يتحول البرلمان من مجرد ممثل للشعب إلى حارس للبوابة السياسية الكبرى، فالقادمون إلى المقاعد النيابية سيكونون أمام خيارين مصيريين: إما أن يكونوا حراساً للوضع القائم عبر تمديد ولاية الرئيس، أو قادة لمرحلة انتقالية تاريخية تفتح الباب أمام تداول سلمي للسلطة. والجدل المحتدم حول هذه الانتخابات ليس سوى عرض لمرض أعمق في جسد النظام السياسي: "الازدواجية بين الخطاب والممارسة" فالنظام يرفع شعارات الديمقراطية والتعددية، لكنه يمارس أبسط أشكال الإقصاء والاستبعاد للمعارضة الحقيقية. وتدور مصر في حلقة مفرغة: برلمان يفتقد للسلطة الحقيقية، وسلطة تفتقد للشرعية الشعبية الكاملة، فتحويل البرلمان إلى "ختم مطاطي" لقرارات السلطة التنفيذية أفقد المؤسسة التشريعية هيبتها، وحوّل العملية الانتخابية إلى مجرد طقس شكلي.
التحدي الأكبر الذي تواجهه مصر يتمثل في ضرورة الانتقال من ديمقراطية الواجهة إلى ديمقراطية الجوهر، فالمطلوب ليس مجرد تعددية حزبية شكلية، بل تمثيل حقيقي لكافة التيارات السياسية، وبرلمان مستقل يمارس سلطته الرقابية والتشريعية بكل حرية. واستمرار النهج الحالي يعني المزيد من تآكل الشرعية، والمزيد من العزوف الشعبي، والمزيد من الاحتقان السياسي، فالشعب المصري لم يعد يصدق الوعود، ولم يعد يثق في المؤسسات، ولم يعد يرى في الانتخابات سوى مجرد "طقس شكلي" لا طائل من ورائه.
نحن أمام لحظة حقيقة: إما أن تفتح الانتخابات الباب أمام انتقال ديمقراطي حقيقي، أو تُغلق نهائياً بوابة الأمل في التغيير السلمي، والمستقبل لم يعد مجرد خيار بين مرشحين، بل أصبح معركة بين نمطين من الحكم: نمط يرى في الشعب شريكاً، ونمط يراه تابعاً.
-----------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش






