توارى مضمون وجوهر احتفالية افتتاح متحف الحضارة ، بعض الشىء وراء "الشكل" الذي أبهر كُثُرا بأناقته وشياكته، وكأنه"سرفيس"فرنساوي يقدم أندر الآثار للعالم، لكن القائمين على الحفل تناسوا أن المعروضات التي يحتضنها المتحف، إنتاج مصري خالص، يمزج التاريخ مع الثقافة والفنون والعلوم، في مكون واحد هو الحضارة المصرية القديمة.. باختصار متحف يسجل الذات الوطنية للمصري القديم، بمعنقداته الخالدة، وعاداته المهجنة، ومأكله ومشربه ومسكنه.. ولأن "الشيء لزوم الشىء" فإن المصري الذي يأكل الفول في وجبة الإفطار منذ عصور الفراعنة، لا يتماشى معه تقديم وجبته الشعبية الأولى له على سرفيس فرنساوي.. كان من الأولى أن يكون "السرفيس" مصريا خالصا، ونتخلى عن الشوكة والسكين، لأن "الذات الوطنية" تأكل بيدها منذ ما قبل ظهورالدولة، وتلعق أصابعها بلسانها أيضا، ما تسبب في توهان "الذات" خلال الحفل، وحيرتها بين الشوكة والأصابع، فغاب الموروث الثقافي والاجتماعي والعقائدي، المتفرد، والمنتقل من جيل إلى آخر منذ عصر الأسرات التي حكمت مصر قبل ألاف السنين.
الموسيقى لم يفهمها إلا قليلون من المتخصصين والهواة، نغمات لم تصل إلى كل الناس، يصاحبها آلات نفخ نحاسية دائما ما يتم استخدامها، أثناءالمقاطع الموسيقية ذات الطابع البطولي والدرامي، وهو ما لم يصلنا عبر النفخ.. الكورال المصاحب لم يفهم منه خصائص أجواء البهجة والفرحة التي كان عليها القدماء عندما يقيمون احتفالا كبيرا.
المعلومات كانت غائبة تماما، منذ لحظة استقبال الرئيس السيسي، وحتى انتهاء الألعاب النارية.. أكثر من 40 رئيسا حضر الحفل ولم يعلم أحد مَنْ مِنهم حضر، ومن منعته الظروف، ولم يعرف أحد مَنْ هؤلاء الذين يصافحهم السيد الرئيس.
آلاف من الطائرات المسيرة شاركت في تقديم ألعاب نارية خلابة، ولم يعلم عنها الملايين من المصريين المهمومين بمشقة الحياة والعيش الكريم، رغم أنها معلومة تمنح قدرا من الاطمئنان، وإننا حاضرون داخل حلبة التكتيكات التسليحية الحديثة.. غابت المعلومات تماما، فبدا الحفل وكأنه رجل صامت، يخضع للإقامة الجبرية، ممنوع عليه أن ينبس ببنت شفه.. هذا أولا.
ولأن الفول لا يصح تقديمه على سرفيس فرنساوي، فإن التعبير عن الشخصية الوطنية للمصري، لم يحتل المكانة المناسبة في سلم أولويات الحفل، وأهم رسائله ما يقودنا مباشرة إلى ثانيا:
المتحف في حد ذاته (أي متحف) عمل وثائقي في المقام الأول، تُجمع فيه المقتنيات الأثرية، ويتم عرضها كوثيقة تاريخية تسجل للبشرية الحضارة المصرية القديمة، ما يجعل من "التوثيق"الفكرة التي ينطلق منها الحفل وينتهي عندها.. وهو ما غاب عن القائمين عليه، رغم وجود الآلاف من المتخصصين في تنظيم الاحتفالات الكبرى، وإقامتها لجني مكاسب ثقافية واقتصادية وعلمية كثيرة، وفوق كل ذلك توثيق الحدث الذي لن يتكرر مرة أخرى، لكن "التوثيق" تمزقت أوراقه ومُهِرَتْ أختامه، وأصبح ورقة بالية ضاعت ملامحها، وبات مصيرها كشقيقتها، الذات الوطنية، التي أصابتها الحيرة، وتاهت أثناء الحفل، ولا تعرف، هل تأكل الفول بالسكين أم بالأصابع.
فَوَتَ علينا "العقل" الذي دبر الاحتفالية فرصة توثيق الحدث الذي لن يتكرر بمثل هذا المستوى مرة أخري، إلا (ربما) إذا اكتشفنا سر بناء الأهرامات، وكان على النافذين والمخول لهم الإشراف على الحفل أن يستعينوا بصوت إذاعي لامع، وهم كُثُر، للتعليق على جولة الكاميرا وما تقدمه من مشاهد سواء كانت متعلقة بمراسم الاستقبال، أو المعروضات والمقتنيات الأثرية الثمينة التي توثق للبشرية الحياة االثقافية والعلمية والفنية للقدماء، والمدى الذي بلغه المصريون في الثراء، وفقا لـ "سكريبت" معد سلفا يكتبه متخصصون (تحت إشراف الأجهزة بالطبع)، لكنهم لم يفطنوا لذلك، ما يؤكد ويدل على أنهم، لم يلتفتوا ولم يلقوا بالا إلى أن أهم وظيفة للمتحف، هي التوثيق.
عموما، فاتنا الكثير من إجراءات توثيق هذا الحفل التاريخي عن حق، ولم يتبق إلا السؤال الكبير الذي خَلِفَهُ وراءه حفل افتتاح متحف الحضارة المصرية:
من نحن؟ وهل الشخصية المصرية "ذات وطنية" بحالها، لها خصائصها المتفردة، مثل سائر شعوب الأرض، أم أن "المصرية" هوية وطنية تراكمت عناصرمكوناتها ومفرداتها عبر العصور والتاريخ.؟.. نفس الأسئلة التي يطرحها الرأي العام في أعقاب الأحداث الوطنية الكبرى، عندما تدب الحيرة بين المصريين، ويختلفون فيما بينهم، حول ما إذا كان تناول الفول بالشوك أم بالأصابع.
----------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم






