03 - 11 - 2025

قراءة تحليلية في مسرحية "الساحرة والحكيم" لصلاح شعير

قراءة تحليلية في مسرحية

تأتي مسرحية "الساحرة والحكيم" بوصفها الخاتمة الرمزية لمجموعة مسرحية حملت الإنسان على مرايا الوعي، وجعلت من الكلمة سؤالًا دائمًا عن الحقيقة والخلاص.

هي مسرحية إذاعية ذات واحد وثلاثين مسمعًا، تتجلى فيها الموسيقى الداخلية بوصفها إيقاعًا للروح لا للنص فحسب، وتتكئ على الحوار كوسيلة للتأمل لا للمجادلة.

اللافت منذ البداية أن الكاتب يضع السن أمام كل شخصية، فيما يبدو فعلًا دلاليًا لا تفصيلاً شكليًا؛ و علامة بنائية نفسية دقيقة.

حين يُذكر سنّ كل شخصية، يمنح المؤلف المستمع بوصلة إدراكية صوتية تساعده على تخيل الطبقة العمرية، والنبرة الصوتية، وطبيعة الموقف النفسي.

فالمسرحية الإذاعية تراهن على الصوت، النغمة، الإيقاع، والمخيلة؛ بينما المسرحية المصورة تراهن على الصورة والإيماءة والمشهد البصري.

في الإذاعية: المتعة تنبع من اللغة والإيحاء والتخيل الداخلي؛ فهي تُعيد للمستمع سلطة التشكيل الذهني. في المصورة: المتعة بصرية مباشرة، تعتمد على أداء الممثل وحركة الديكور.

إذن، الاختلاف في الوسيط السردي يجعل القراءة الإذاعية أكثر شاعرية وتجريدًا، بينما المصورة أكثر واقعية وتجسيدًا.

الكاتب  في هذه المسرحية يختار الصوت لأنه يريد إيصال الفكرة لا الشكل؛ يريدنا أن نسمع الصراع داخل عقولنا قبل أن نراه.

- دلالة العنوان "الساحرة والحكيم"

العنوان يقوم على ثنائية ضدّية تجمع بين القوة الغامضة والعقل الواعي. كلمة الساحرة توحي بالإغواء، بالقدرة الخادعة، وبالإبهار الكاذب.بينما الحكيم يوحي بالثبات والرؤية والتبصر.

العنوان بذلك يستدعي الصراع الأزلي بين الوهم والحقيقة، وبين السلطة القائمة على التلاعب والسلطة القائمة على المعرفة. وهو يشي منذ البداية بأن النص لا يتحدث عن شخصين فحسب، بل عن نموذجين في الحياة: من يُضل بعاطفة الجماهير. ومن ينقذ  بعقل الحقيقة.

- دور المرأة في هذه المسرحية (مقارنةً ببقية المجموعة)

في المسرحيات السابقة للمجموعة، ظهرت المرأة غالبًا رمزًا للضحية أو المحرض العاطفي، لكن في "الساحرة والحكيم" تتحول المرأة إلى قوة فاعلة مزدوجة الوجهين:

فهي الساحرة حين تنحرف عن الحكمة. وهي الأم أو العارفة حين تهتدي بنورها الداخلي.

فالمرأة هنا ليست تابعة، بل مصدر السلطة ذاتها — إما سلطة الخداع أو سلطة النور. وهذا تطور جمالي في رؤية الكاتب؛ إذ جعل منها مرآة المجتمع لا هامشه.

- دلالة أن المرأة تسود الرجل بعد غرق فرعون:-

في السياق الرمزي الذي توظفه المسرحية، مشهد سيادة المرأة بعد غرق فرعون لا يُقرأ حدثًا تاريخيًا بقدر ما يُفهم كرمز نفسي وفكري.

١. رمز التحول من القوة المادية إلى الحكمة الروحية: فرعون يمثل السلطة الذكورية المطلقة القائمة على البطش والقوة الجسدية والعسكرية، وحين يغرق، ينهار نموذج القوة المادية، فيفتح المجال لنموذج آخر: القوة المعنوية أو الروحية، التي تمثلها المرأة. إذن سيادة المرأة هنا ليست هيمنة جندرية، بل سيادة الرحمة والبصيرة على الطغيان.

٢. رمز لتوازن الكون بعد الفساد: بعد غرق فرعون، تختل منظومة الكون إذا لم يظهر مبدأ مضاد للشر. المرأة تمثل هذا المبدأ — فهي في رمزية المسرحية الرحم الذي يعيد الخلق بعد الفناء. فإذا كان فرعون رمزًا للموت والإلغاء، فالمرأة رمز للبقاء والتجدد. بهذا المعنى، تتقدم المرأة لتعيد التوازن إلى العالم، لا لتستبد به.

. رمز التحول في وعي المجتمع

الكاتب يُصور المرأة كضمير الجماعة أو بوصلة الإصلاح. بعد غرق فرعون (رمز العقل المتجبر والسلطة المادية)، تتقدم المرأة لأنها الأقدر على احتضان الوعي الجديد القائم على الإيمان والعلم معًا. فهي لا تسود الرجل كخصم، بل كروح إصلاحية تعيد للبشرية إنسانيتها. فهى ليست نهاية ملك، بل انكشاف لزيف الوعي الذكوري المتسلط.

المرأة هنا ليست حاكمة بمعنى السلطة، بل سيدة البصيرة. بعد أن ينكسر الطغيان المادي (فرعون)، تتجلى الحكمة الأنثوية، وهي الوجه الروحي للإنسانية.

إذن، السيادة ليست على الرجل، بل على الغرور في الرجل.

- البنية الفكرية والمغزى العام للمسرحية :

تقوم المسرحية على صراعٍ بين العقل والأسطورة، بين منطق العلم وطلاسم الخرافة. فـالحكيم يواجه محاولات التضليل باستخدام الدليل والبرهان، لا السحر والدماء. أما الساحرة فتدعي امتلاكها مفاتيح الغيب والقوة، لكنها لا تملك إلا الخوف والادعاء. من خلال هذا التضاد، يُظهر الكاتب أن الانتصار الحقيقى لا يتحقق إلا بالعقل والعلم.

فالجهل، وإنْ ارتدى عباءة السحر، يظل عاجزًا عن حماية الوطن، بينما يُثبت الحكيم أن قوة الحجة بالدليل أقوى من كل تعاويذ الخرافة. وهكذا ينتصر الفكر المستنير على الزيف، فيتحقق الخلاص بعد أن يتطهر الوعي الجمعي من سطوة الجهل.

- الجماليات والأسلوب:-

تميز النص بجمالياتٍ صوتيةٍ عالية تناسب طبيعة المسرح الإذاعي، فالإيقاع يعتمد على الحوار المكثف، والتكرار الرمزي، والنبرة الوعظية ذات البعد الفلسفي. فالكاتب يستخدم اللغة العربية الفصحى الممزوجة بإيقاع وجداني يجعل الجمل أشبه بتعاويذ مضادة للسحر . لغة المسرحية تجمع بين البيان الفلسفي والشاعرية الوجدانية. الحوار يبدو كأنه شعرٌ حرّ تُغنيه الفكرة

اللغة هنا كائنٌ نابض بالإيقاع الداخلي، تتراوح بين التقريرية المنطقية والتجريد الرمزي، مما يجعلها مناسبة تمامًا للمسرح السمعي. كما أن الكاتب يحافظ على إيقاع متصاعد بين المسموعات، فينمو المعنى كما تنمو النغمة في سيمفونية فكرية متماسكة.

الشخصيات: رموز أكثر منها بشرًا؛ فكل شخصية تمثل بُعدًا نفسيًا أو وجوديًا.

الفضاء: المسرح الإذاعي أتاح انطلاق الخيال؛ فالصوت صار مشهدًا، والصدى صار ظلًّا.

التكرار: وظيفة تأملية تُعيد المعنى في دوائر الوعي، كأن السرد كله صلاة داخلية.

- التحليل النفسي للمسرحية:

على المستوى النفسي، يجسد النص صراع الإنسان مع ذاته؛ فالساحرة والحكيم هما وجها النفس الواحدة. الأولى تمثل اللاوعي بما يحمله من انفعالات ورغبات وحنينٍ إلى الغيب، والثاني يمثل الوعي الذي يطلب السيطرة والتفسير.

لكن الحوار بينهما لا ينتهي بصراعٍ بل بتكامل، فيما يشبه ما سماه كارل يونغ اندماج الأنِيما والأنِيموس؛ أي اتحاد العنصرين الأنثوي والذكري داخل الوعي الواحد. حسب نظريته فى اللاوعى الجمعى

فالنهاية ليست انتصار طرف، بل ولادة الإنسان المتوازن الذي يجمع بين القلب والعقل.

- اسئلة إستقرائية للنقاش :

١- هل كانت الساحرة رمزًا للمرأة، أم للروح الإنسانية التي عانت من القهر؟

الساحرة تمثل المرأة بوصفها الوعي الغائر في عمق الوجود، ولكنها تتجاوز جنسها لتصبح رمزًا للروح الإنسانية التي نُفيت عن مركزها الحقيقي. فهي المرأة – الأرض – الحدس – الذاكرة الأولى، التي نُظر إليها بعين الشك حين امتلكت بصيرة لا تُقاس بمقاييس العقل الذكوري.

من هنا، الساحرة في النص ليست مجرد امرأة تُمارس السحر، بل هي صوت الروح في مقابل صوت السلطة، وبهذا المعنى تصبح كل روح حرة هي "ساحرة" في وجه نظامٍ أعمى.

٢- هل الحكمة في النص منوطة بالعقل أم بالحدس؟

في بناء المسرحية، الحكيم يجسد العقل المنطقي الباحث عن البرهان، بينما الساحرة تجسد الحدس النوراني الذي يتجاوز الحواس. لكن النص لا ينحاز إلى أحدهما، بل يدعو إلى مزج الاثنين — لأن الحقيقة لا تُرى بعينٍ واحدة.

إذًا: الحكمة الحقيقية هي اتحاد العقل والحدس، الذكر والأنثى، الوعي واللاوعي.

٣- كيف يمكن أن نقرأ شخصية فرعون نفسيًا؟ هل تمثل عقدة الذات المتضخمة؟

فرعون في المسرحية هو الظل الجمعي للإنسان كما وصفه يونغ؛ صورة الغرور المتضخم الذي يعبد ذاته. هو ليس مجرد ملك طاغية، بل تجسيد لاضطراب نفسي يُعرف بجنون العظمة، حيث يفقد الفرد القدرة على التمييز بين الألوهية والذات. وحين يغرق، لا يغرق الجسد فقط، بل يغرق الوهم الذي بُني على تقديس الأنا.

٤- ما الذي يجعل المرأة تتفوق بعد انهيار فرعون؟ هل هو وعي متوارث أم فطرة خفية؟

بعد الغرق، تنسحب سلطة الجسد والبطش، فيعلو صوت البصيرة. والمرأة في المسرحية لا تتفوق لأنها تسعى للهيمنة، بل لأنها تستعيد فطرتها الأولى؛ صفاء الفطرة الذي يربطها بالمطلق الإلهي. فوعي المرأة هنا ليس مكتسبًا، بل هو عودة إلى الأصل، إلى الحكمة الكامنة في رحم الوجود. ولذلك قال النص ضمنيًا: من رحم المرأة وُلد موسى، ومن صمتها وُهبت النجاة.

5- هل انتصار المرأة في النهاية هو انتصار للنوع أم للوعي الإنساني؟

هو انتصار للوعي الإنساني في أنثاه؛ أي للجانب اللطيف، الرحيم، المتصل بالله، لا للجسد أو النوع. حين تموت السلطة (فرعون) وتغرق الأنا، تخرج الأنثى كرمز للحياة، وكأنها تقول: الخلق لا يكتمل إلا برحمة،والرحمة أنثى. إذن المسرحية تحتفي بـ الأنوثة كقيمة إنسانية روحية، لا كجنس.

٦ - ما المغزى من ثنائية الساحرة والحكيم في ضوء علم النفس التحليلي؟

في ضوء نظرية يونغ، "الساحرة" هي الأنِيمة (الجانب الأنثوي في النفس)، و"الحكيم" هو الأنيموس (الجانب الذكري). والصراع بينهما يعكس صراع النفس الإنسانية بين العاطفة والعقل. وحين يتصالحان في نهاية المسرحية، يتحقق ما يسميه يونغ التحقق الذاتي — أي أن يصبح الإنسان كائنًا متوازنًا موصولًا بذاته العليا.

- دلالة غرق فرعون وظهور السيادة الأنثوية بعدها:

الغرق هو تطهير رمزي، وظهور المرأة بعده هو ولادة جديدة للعالم بعد انكسار الطغيان. تفتح المجال لقيادة مبنية على العقل والرحمة، والمرأة هنا تمثل هذه القيادة التي تحتضن وتُنير ولا تُسيطر بالقوة.

-  ختامًا

هكذا تبقى "الساحرة والحكيم" شهادة فكرية على أن السحر الأكبر ليس فى التعاويذ، بل فى الكلمة التى تُوقظ الوعي، وفى العقل الذى ينهض بالوطن حين يُحسن الإصغاء لصوته الداخلي.
-------------------------
بقلم: فاتن صبحي