02 - 11 - 2025

هاني عجيبة شاهد على تحولات مجتمع المدينة الباسلة عبر "بورسعيد من دفتر أحوال الذكريات"

هاني عجيبة شاهد على تحولات مجتمع المدينة الباسلة عبر

يُعدّ كتاب "بورسعيد.. من دفتر أحوال الذكريات" للكاتب هاني عبد العزيز عجيبة، شهادةً اجتماعية حيّة، وصورًا نابضة بالحياة تُجسّد ملامح الواقع الراهن في المجتمع البورسعيدي.

يزاوج الكاتب، من خلال هذا الكتاب الصادر عن دار مسار للنشر والتوزيع في 220  صفحة من القطع فوق المتوسط، بين قدراته كباحثٍ وكاتبٍ يمتلك شغفًا بالتاريخ والموروث الشعبي، وبين عشقه العميق لمدينته. يوظّف هذا الشغف في التفكير والطرح، لا سيما عند تناوله التحولات التي طرأت على بورسعيد عبر العقود. ويمنح الكتابُ، برؤيته المشهدية والبانورامية، جاذبيةً خاصة، تتيح للقارئ العام فهم معانيه ومراميه، وتقدّم في الوقت ذاته مادة ثرية تفيد الباحثين في مجالي التاريخ والثقافة الشعبية. كما يضع هذا العمل، دون شك، صانع القرار أمام الحقيقة الاجتماعية المصرية الراهنة، بما تحمله من تداخلات سياسية واقتصادية ونفسية ودينية وثقافية ومعرفية وأنثروبولوجية.

لم يتبع الكاتب الطريقة التقليدية التي تقسم الكتب من هذا النوع، أو تحت هذا العنوان، إلى فصول ومباحث ومطالب، وهكذا، إنما يطرحه دفقات أو لوحات أو كتابات تجمع بين الوصف والتحليل والسرد والتقرير، عبر عناوين لافتة، جاءت، وفق الفهرس، على النحو التالي: "صيد الضهرة"، و"ليلة شم النسيم"، و"في بورسعيد الوطنية"، و"المعدية"، و"الشوي على البلاطة"، و"البلمة"، و"السمسمية"، و"انفتاح وتحولات"، و"بورفؤاد أخر المدن الملكية"، و"حارة روس"، و"رحيل"، و"الراية الحمراء"، و"شارع الروضة"، و"الجامع التوفيقي"، و"الموكب"، و"مدد يا نبي"، و"حارة العيد"، و"يوم الجمعة نروح البحر"، و"السمنية والتمرية "، و"ليلة رأس السنة"، و"المصري والأهلي"، و"شاليه جدتي"، و"إنطلاقة"، و"النشأة"، و"ولع الفرجة".

ومن العناوين أيضًا: "أم الفقير"، و"يا رايحين لحلب"، و"الميناء"، و" اغتيال السادات".

لم يكتفِ المؤلف بسرد ذكريات النشأة الأولى في بورسعيد، بل عاد إلى الدراسات التي تناولت تاريخ هذه المدينة الباسلة، مستعينًا بكل ما كُتب من أبحاث وكتب وتقارير، إلى جانب الشهادات الشفهية التي رواها أبناء الأجيال السابقة.

من هنا خرجت سطور هذا الكتاب من قلب شارع الروضة، مسقط رأس المؤلف، ومن سوق السمك القديم، والميناء، وشاطئ البحر؛ من رحم الأمكنة التي صاغت وجدانه. وجاءت الكتابة مزجًا بين الخاص والعام، وبين التاريخ والحاضر، وبين الفرد والأسرة والمجتمع.

ويقول الكاتب في المقدمة: " وهكذا وجدت نفسي أكتب عن بورسعيد، لا كما تُروى في الوثائق الرسمية، بل كما عرفتها أنا، وقد استثمرتُ شغفي بالتاريخ، ووفائي للمكان؛ في رسم ملامح تلك الحقبة التي عايشتها، مقدما سيرة وجدانية للمدينة، تُروى بصوت الراوي الشعبي.

 سيرة تنسج خيوطها من مزيج من السرد الشخصي، والتوثيق التاريخي؛ مستندة إلى وهج الذاكرة بما تحمله من تفاصيل دقيقة ومعايشة حيّة، سعيًا لربط التكوين الذاتي الخاص بالنسيج الثقافي العام، في إطار بحثٍ حرّ، لا تقيّده ضوابط منهج البحث الأكاديمي.

وقد سعيت من خلال هذا الكتاب إلى توثيق العادات والطقوس الشعبية المتوارثة في بورسعيد وتأصيلها، لتكون مرجعًا مبسّطًا للأجيال القادمة؛ يحفظ الذاكرة الجمعية، ويعزز الهوية الثقافية، ويربط الأجيال الجديدة بماضيهم، حفاظا على هذا التراث الفريد من الاندثار.

وذلك من باب ردُّ الجميلٍ لتلك المدينة التي علمتني معاني الوطنية والانتماء، ووهبتني ذاكرة لا تنضب.

وأرجو العذر إن خانتني حروفي، وألتمس الصفح إن أنقصت قدرًا، فما أنا إلا عاشقٌ حاول أن يتغنّى بحب هذه المدينة"

 يعطي هذا الكتاب مصداقية ودفئًا إنسانيًا، وهو يعالج أزمة اندثار الهوية ويرصد التحولات الكبرى في المجتمع البورسعيدي في حقبة السبعينات والثمانينات، من زوايا رؤية خاصة، وضع فيها كامل خبرته الحياتية، وقراءاته المتنوعة، وعرضها بطريقة تجمع بين الأدب في سردياته، وبين التحليل الاجتماعي المعمق، فنرى من خلاله مشكلات المجتمع البورسعيدي الحالية بطريقة مغايرة عما يسكن الكثير من الدراسات الاكاديمية التقليدية.  

يضعنا الكتاب إذن في عين مشكلات عدة من قبيل اندثار العادات الاجتماعية، والموروثات الشعبية، وضياع القيم الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الحقبة الهامة، وحدوث التفاوت الطبقي الشديد، والاستقطاب الاجتماعي الحاد، وكيف أضعفت تلك التحولات أصالة هذا الشعب.

لا يكتفي الكاتب في هذا المضمار برصد التحولات الاجتماعية التي شهدتها بورسعيد في أواخر سبعينيات القرن الماضي وحقبة الثمانينيات، بل يسعى إلى فهم جذورها التاريخية والاجتماعية والنفسية. وهو في ذلك مدفوع برسالة جوهرية تهدف إلى تنشيط الوعي الجمعي، وتعزيز الهوية الثقافية، وربط الأجيال الجديدة بماضيهم، حفاظًا على هذا التراث الفريد من الاندثار، بما يحمله من دلالات عميقة تُسهم في صون روح المدينة الغنية بتاريخها النضالي في مقاومة المستعمر.

إن هذا الكتاب يسلط الضوء على أوجاع غالبًا ما تُغفل في الإعلام الرسمي، ويشكل وثيقة فكرية يمكن الرجوع إليها لفهم مرحلة اجتماعية وسياسية حرجة في تاريخ مصر.
...