قال الرئيس السوري أحمد الشرع مازحًا بعد أن وصل أكثر من مئة من الموالين له إلى قاعدته السابقة للمتمردين، وقد جاء كثيرون منهم بسيارات رباعية الدفع فاخرة: "لم أكن أعلم أن رواتب الحكومة بهذه الضخامة!".
ثم وبّخ الشرع المسؤولين ورجال الأعمال المجتمعين قائلًا، بحسب رواية شخصين كانا حاضرين: "هل نسيتم أنكم أبناء الثورة؟" مشيرًا إلى العدد الكبير من سيارات كاديلاك إسكاليد ورينج روفر وشيفروليه تاهو المصطفة في الخارج، وأضاف ساخرًا: "أهكذا سرعان ما أغرتكم الدنيا؟"
وشهدت سوريا عشرة أشهر مضطربة منذ أن أطاح المقاتل أحمد الشرع بالرئيس بشار الأسد بعد حربٍ أهلية استمرت 14 عامًا، فقد شهدت البلاد موجات متقطعة من العنف الطائفي تورطت فيها فصائل سابقة من المعارضة مرتبطة بحكومته الجديدة، وأدّت إلى مقتل أكثر من ألفي شخص، إضافةً إلى سلسلة من عمليات الإخلاء القسري ومصادرة الممتلكات.
انعقد الاجتماع في 30 أغسطس الماضي ولم تكشف تفاصيل عنه من قبل — في المقر السابق للشرع في محافظة إدلب شمال غربي سوريا، بعيدًا عن مكتبه الرئاسي الرسمي في دمشق، وكان الرئيس، وهو قائد سابق في تنظيم القاعدة، يتحدث وإلى جانبه مسؤولان أمنيان رفيعا المستوى.
وبحسب رواية الحاضرين واثنين من الموظفين الحكوميين الذين أُطلعوا على تفاصيل الاجتماع، أمر الشرع الموظفين المدنيين الذين يمتلكون سيارات فاخرة بتسليم مفاتيحها أو مواجهة التحقيق بتهمة الكسب غير المشروع، وقال الحاضرون لوكالة رويترز إن عددًا قليلًا سلّم المفاتيح أثناء مغادرتهم في نهاية الاجتماع.
ويشير الخطاب الذي وجّهه الشرع إلى الموالين إلى التحدي الجوهري الذي يواجهه الرئيس البالغ من العمر 43 عامًا، وفقًا لمسؤولين ومحللين سوريين والمتمثل في كيف يمكنه الانتقال من التمرّد إلى الحكم المدني من دون أن يعيد إنتاج الفساد المستشري في دولة الأسد البوليسية المكروهة.
الرهان المطروح هو الشرعية التي اكتسبها الشرع داخل سوريا وخارجها بعد الإطاحة بالديكتاتور.
ويقول حسام جزماتي، الباحث السوري المتخصص في الجماعات الإسلامية والذي درس مسيرة «الشيخ المقاتل» لأكثر من عقد "الشرع لا يملك أي إطار مؤسسي أو مرجعية فكرية يستند إليها، فهو ليس نتاج مؤسسة دولة، بل نتاج فصيل مسلح، ومنذ عام 2003، عمل في بيئة ميليشياوية كان النفوذ فيها يقوم على التحالفات والمحسوبية والاحتكار". وأضاف جزماتي أن استيلاء الموالين على غنائم الحرب يهدد قدرة الشرع على ترسيخ سلطته: "إنه يحتاج إلى موارد مالية كبيرة لإبقاء إدارته قائمة — ليس بالضرورة لمكاسب شخصية، بل للحفاظ على هيبته وسلطته".
وقالت وزارة الإعلام السورية لوكالة رويترز إن الشرع نظّم "اجتماعًا وديًا غير رسمي"، في إدلب جمع قادة سابقين ومسؤولين وشخصيات بارزة، تناول التحديات السياسية والأمنية والحاجة إلى تغيير "ثقافة الاستثمار التي أرساها النظام السابق". وأضافت الوزارة في بيانها أن الرئيس "شدّد على أنه لن يتسامح مع أي شبهة فساد بين موظفي الدولة"، ونفت أن يكون أحد قد سلّم مفاتيح سيارته خلال اللقاء.
الشرع يستبعد شقيقه
بحسب مصادر يمكن ملاحظة توازن الرئيس السوري أحمد الشرع الدقيق حتى داخل أسرته نفسها، فشقيقاه الأكبران يشغلان مناصب رفيعة في الحكومة الجديدة، إذ يتولى حازم الإشراف على شؤون الأعمال والاستثمار داخل سوريا وخارجها، بما في ذلك مشاريع المقاتلين السابقين من المعارضة المكلّفين بإعادة هيكلة الاقتصاد السوري، أما ماهر، وهو طبيب نساء وتوليد يحمل الجنسيتين السورية والروسية، فيشغل منصب الأمين العام للرئاسة، ويرأس الاجتماعات الرسمية ويشارك في اللقاءات مع الشخصيات الأجنبية، من بينها لقاء الشرع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو هذا الشهر.
وقال عدد من المسؤولين السوريين إن اعتماد الشرع على أقاربه وأشخاص مقرّبين منه جاء نتيجة حاجته إلى سدّ الفراغات في إدارته الجديدة بسرعة عقب الانهيار المفاجئ لحكومة الأسد، غير أن منتقديه يرون في ذلك تكرارًا مقلقًا لنمط الحكم العائلي الذي ميّز النظام السابق. لكن شقيقه الأكبر الآخر، جمال، وهو رجل أعمال، أصبح في مرمى حملة الشرع الناشئة لمكافحة الفساد، بحسب ستة أشخاص مطّلعين على القضية، من بينهم مسؤولون حكوميون ورجال أعمال.
فبعد صعود الشرع إلى السلطة، أسّس جمال مكتبًا في العاصمة دمشق، أدار منه مشاريع متعددة في مجالات الاستيراد والتصدير والسياحة، وفق رواياتهم، وأصبح مشهدًا مألوفًا في بهو الفنادق والمطاعم الراقية، حيث كان يصل إليها بسيارة مرسيدس S-Class سوداء نوافذها مظلّلة ولا تحمل لوحات تسجيل.
وبحسب ما قالته المصادر لوكالة «رويترز»، أمر الشرع في أغسطس بإغلاق المكتب ووجّه المؤسسات الحكومية بعدم التعامل مع شقيقه، وجاء القرار إثر اتهامات بأن جمال استغلّ صلته العائلية بالرئيس لعقد عشرات الاجتماعات مع مسؤولين حكوميين ورجال أعمال لتعزيز مصالحه الشخصية.
ووجد مراسل "رويترز" المكتب مغلقًا ومختومًا بالشمع الأحمر هذا الشهر، ولم يجب أحد على الجرس، ويُستخدم الشمع الأحمر في سوريا ودول أخرى في المنطقة عادةً لختم العقارات المغلقة بأوامر مرتبطة بتحقيقات في قضايا فساد.
وأكدت وزارة الإعلام السورية أن المكتب قد أُغلق فعلًا، وقالت في بيانها لـ«رويترز» "لم يُسمح لجمال الشرع بالعمل ككيان استثماري أو تجاري. وقد أوضحت رئاسة الجمهورية منذ تشكيل الحكومة أن جمال الشرع لا يشغل أي منصب رسمي". ولم تذكر الوزارة ما إذا كانت هناك تهم محددة وُجّهت إلى شقيق الرئيس أو طبيعتها. ولم تتمكن «رويترز» من التواصل مع جمال للتعليق، وعند الاتصال برئيس مكتبه، قال إنهما خارج دمشق وامتنع عن الإدلاء بمزيد من التفاصيل.
وبُعيد إغلاق مكتب جمال، عقد الشرع اجتماعًا عائليًا حضره أفراد من الأسرة، بينهم والده البالغ من العمر 79 عامًا، وحذّرهم فيه من استغلال اسم العائلة لتحقيق مكاسب شخصية، بحسب قريب شارك في الاجتماع.
مدير مصنع: دفعت 200 ألف دولار مقابل عامل
جاء التحذير الذي وجّهه الرئيس أحمد الشرع إلى الموالين له في أغسطس/آب بعد شكاوى عبّر عنها مواطنون عاديون خلال اجتماع مع الرئيس في وقت سابق من ذلك الشهر، بشأن مظاهر الثراء المفاجئة لبعض المقاتلين السابقين الذين أصبحوا الآن موظفين في الخدمة المدنية، وفقًا لأحد الحاضرين.
وكرّر الشرع رسائله المناهضة للفساد علنًا في دمشق منذ ذلك الحين، ففي مقطع مصوَّر بثّته وسائل الإعلام الرسمية في 13 أكتوبر/تشرين الأول، قال للمسؤولين إنه يتعين عليهم الكشف عن استثماراتهم الحالية، وإنه يُحظر عليهم الدخول في مشاريع خاصة جديدة، كما شدد على ضرورة تجنّب العلاقات الشخصية مع رجال الأعمال، محذرًا من تكرار النموذج الذي ساد في عهد الأسد.
لكن الفساد لا يزال مستشريًا في سوريا ما بعد الأسد، بما في ذلك دفع الرشى مقابل الإفراج عن معتقلين أو استعادة منازل وسيارات وأملاك أخرى صادرها أفراد من الطبقة الحاكمة الجديدة، وفقًا لتسع مقابلات أجرتها «رويترز» مع رجال أعمال سوريين ومسؤولين سابقين وحاليين. وقال أحد الصناعيين ومديران كبيران في مصانع — طلبوا جميعًا عدم ذكر أسمائهم ليتحدثوا بحرية — إنهم اضطروا إلى دفع مبالغ نقدية لوسطاء نافذين، دون إيصالات أو مستندات رسمية، مقابل السماح باستمرار أعمالهم أو الإفراج عن موظفين اعتُقلوا بزعم ارتباطهم السابق بنظام الأسد. وقال أحدهم إنه دفع 100 ألف دولار للإفراج عن أحد العمال، ثم أُبلغ لاحقًا بأنه سيتعين عليه دفع 100 ألف دولار إضافية إذا أراد السماح للعامل بالعودة إلى العمل، وقال آخر إنه دفع 25 ألف دولار لإطلاق سراح أحد موظفيه.
ولم تتمكن «رويترز» من التحقق بشكل مستقل من صحة هذه الروايات.
وقالت وزارة الإعلام السورية إن مثل هذه الممارسات «ليست واسعة الانتشار»، وإن بعض الأشخاص المشتبه في تلقيهم رشى مقابل الإفراج عن معتقلين أو إنجاز معاملات رسمية قد أُحيلوا إلى «تحقيق فوري». وأشار من تمت مقابلتهم من رجال الأعمال إلى أن مصدر القلق الأكبر في أوساط المجتمع الاقتصادي السوري يتمثل في غموض آلية التسويات التي يعقدها المسؤولون الحكوميون مع أشخاص متهمين بالارتباط بنظام الأسد، وتشمل هذه التسويات قيام أصحاب الأعمال بالتنازل عن أصولهم مقابل السماح لهم بالعودة إلى العمل في سوريا، وقد بدأت هذه الترتيبات بالتشكل مباشرة بعد سقوط دمشق.
وتحاول السلطات حاليًا تمرير جميع هذه التسويات عبر لجنة الكسب غير المشروع التي شُكّلت في مايو/أيار، قبل تحويل الأصول إلى صندوق الثروة السيادي الجديد الذي لا يزال قيد التأسيس، وفقًا لستة مصادر من بينهم مسؤولون حكوميون ورجال أعمال مطّلعون على الملف. وقال هؤلاء إن الصندوق يضم الآن مئات الشركات والمباني والمصانع وغيرها من الأصول المرتبطة بأشخاص يُشتبه في صلاتهم بنظام الأسد. لكن هاتين المؤسستين الناشئتين أصبحتا أيضًا تحت المجهر، فقد أُلقي القبض على محاميين يعملان في الصندوق بانتظار التحقيق معهما في مزاعم فساد، وقد أمضى أحدهما أكثر من شهر قيد الاحتجاز، بحسب المصادر.
وأكدت وزارة الإعلام عمليات التوقيف، موضحةً أن المحاميين "يخضعان للتحقيق في تهمة سرقة مزعومة لم تُثبت بعد"، كما قالت إن عددًا من أعضاء لجنة الكسب غير المشروع — المكلّفة بالتحقيق في قضايا الفساد — قد تم احتجازهم أيضًا للتحقيق في مخالفات يُشتبه بارتكابها، وإن لم تُوجّه إليهم تهم رسمية بعد.






