في 30 أكتوبر، اجتمع الرئيس الصيني شي جين بينج ونظيره الأمريكي دونالد ترامب في بوسان بكوريا الجنوبية، في لقطة دبلوماسية حملت كل عناصر العرض والتأثير، المصافحة، الابتسامات، والإعلانات عن تفاهمات تجارية تقنية.
على مستوى الخطاب العام بدا اللقاء بمثابة محاولة لتهدئة التوترات وإعادة إدارة العلاقات بين أعظم اقتصادين في العالم؛ لكن قراءة أعمق، خصوصاً عبر مرآة التغطية الأوروبية، تبيّن أن هذا اللقاء لم يُعد تنافساً حادّاً إلى ما قبل، بل قدّمه بعض المراقبين كفرصة لبكين لإعادة ترتيب أوراقها والظهور بوضعية أقوى نسبياً.
ما الذي أعلنه الزعيمان فعلاً؟
خطاب شي تمحور حول صورة الصين «الدولة المسؤولة» التي لا تسعى للمواجهة وإنما لتوسيع فرص التنمية والاندماج في قواعد النظام الاقتصادي العالمي، مع إبراز مؤشرات اقتصادية إيجابية (نمو 5.2% في الأرباع الثلاثة الأولى وارتفاع التبادل التجاري) كدليل على متانة الاقتصاد الصيني.
من جهته، وظف ترامب اللغة الإيجابية والعبارات الودية للإشارة إلى إمكانية تعاون عملي مستقبلي، وهو ما ترافق مع إعلان تفاهمات أولية على ملفات مثل الرسوم الجمركية، تأجيل ضوابط على صادرات مواد استراتيجية مثل بعض عناصر «الأرض النادرة» واتفاقات تتعلق بالسلع الزراعية.
هذه التفاهمات بدت - على المستوى العملي كـ«تجميد» أو «تسوية مؤقتة» أكثر منها حلّاً هيكلياً لمصادر التنافس الأساسية.
لماذا رأت التغطية الأوروبية أن الصين خرجت رابحة نسبياً؟
الصحف والمراكز البحثية الأوروبية أبدت اهتماماً كبيراً بهذا اللقاء، لكن برؤية ناقدة وتحليل تميل إلى أن الصين خرجت رابحة نسبياً، فيما الولايات المتحدة تبدو متجاوِزة نحو تسوية تكتيكية أكثر منها استراتيجية.
مثلاً، تقرير من Chatham House رأى أن «حتى لو توصّل ترامب وشي إلى تفاهم، فإنه من غير المرجّح أن يُعيد تشكيل جوهر التنافس بين البلدين» وأن أوروبا «بحاجة إلى سياسة مستقلة تجاه الصين».
صحيفة Financial Times لفتت إلى أن الاتفاق يبدو مؤقتاً («truce») وأن الصين ظهرت كـ«ندّ فعلي» للولايات المتحدة في هذا اللقاء.
التحليل من وكالة Associated Press أشار إلى أن الولايات المتحدة قد تحاول إعادة ما فقدته في الحرب التجارية، لكن ما تحقق حتى الآن ليس كافياً ليُعتبر انتصاراً مطلقاً لواشنطن.
مقالة تحليلية بعنوان «China-US trade tensions: what now» من شبكة RAI (آيرلندا) ذكرت أن «مصائر سلاسل التوريد كادت تنهار، وأن التقدّم هو في إعادة الاستقرار أكثر منه في إنهاء المنافسة».
لماذا يُنظر إليه كـ «انتصار نسبي للصين»؟
من خلال ما ورد في التغطية الأوروبية، يمكن تلخيص الأسباب التالية:
مرونة الصين: التوافقات حول التجارة والرسوم أُعلن عنها كاستجابة صينية، ما يعزز صورة الصين الدولة التي تمتلك القدرة على المناورة والتكيّف.
الولايات المتحدة في موقف دفاعي: الاتفاق جاء بعد ضغوط أميركية وجولات تهديدات، ما يجعل الطرف الأميركي يبدو كمن يتراجع جزئياً وليس من يقود المبادرة.
أوروبا تشاهد من المنصة: في حين اعتُبر أن الصين تضع نفسها كقوة مستقلة نسبياً، لم يكن لدى أوروبا دور محوري في هذا اللقاء، ما يعكس وجود تغيّرات في موازين القوى العالمية نحو آسيا.
مضمون الاتفاق محدود زمنياً: كثير من الصحف الأوروبية لفتت إلى أن ما تمّ هو تهدئة مؤقتة وليس اتفاقاً هيكلياً شاملاً، ولكن الصين استفادت من الزخم الإعلامي والدبلوماسي.
ماذا يعني هذا التحوّل للمشهد الدولي؟
من المنظور التحليلي، هناك عدة انعكاسات يُحتمل أن يتابعها المراقبون، قد تشعر الولايات المتحدة بأن من الضروري تطوير استراتيجيتها تجاه الصين بما يتجاوز التنازلات التكتيكية، وهو ما دعاه إليه تحليل «Chatham House».
على أوروبا أن تعيد ترتيب أولوياتها: فهي لا تريد أن تُجبر على «اختيار جانب» بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما حذّر منه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أكثر من مناسبة.
للمستثمرين والأسواق، فإن هذا اللقاء ربما أزال بعض ضبابية العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما ظهرت له إشارات في أسواق أوروبا.
لكن في العمق، فإن التنافس بين الصين والولايات المتحدة – على التكنولوجيا، النفوذ الجيوسياسي، سلاسل التوريد – لن يُحلّ بين ليلة وضحاها، مما يعني أن «التهدئة» قد لا تستمر أو تتحول إلى تنافس أكثر حدة لاحقاً
المنصة الأوروبية كمتواجد مراقب وليس فاعل تغطية الصحف الأوروبية — خاصة الألمانية والإيطالية — بينت شعوراً بأن أوروبا تتابع من المدرجات.
غياب دور أوروبي حاسم في صناعة التفاهمات عزّز الانطباع بأن آسيا (وبكين تحديداً) أصبحت مركز ثقل لا يمكن تجاهله، وأن أوروبا ستحتاج إلى إعادة بلورة سياساتها لتظل فاعلة.
النتائج قابلة للظهور الإعلامي أكثر منها التحول البنيوي، فما أعلن عنه يُسجل كنقطة تهدئة مهمة، لكنه ليس ضربة قاضية للتنافس على التكنولوجيا أو النفوذ الجيوسياسي؛ مع ذلك، قدرت الصين أن تحول «التهدئة» إلى رواية نجاح دبلوماسي واجتماعي — وهذا ما يفسّر وصف بعض الصحف للقاء بأنه مكسب نسبي لبكين.
الفروقات في التغطية: ألمانية واقتصادية مقابل إيطالية براجماتية وصور بصرية
الصحافة الألمانية (FAZ، Süddeutsche، Die Welt) اتخذت لهجة تحليلية تحفظية.
إقرار بالتقدم في ملفات تجارية محددة مع تساؤلات جوهرية حول استدامة الاتفاقات وحول معالجة جذور التنافس في مجالات التكنولوجيا وسلاسل التوريد.
هذه الصحف دقّت ناقوس التحذير لأوروبا بأن لا تبني سياسات مقلدة أو توقع اعتمادها كأمر مفروغ منه على نتائج قمم ثنائية.
على النقيض، تناولت الصحافة الإيطالية (La Repubblica، Corriere، La Stampa) اللقاء أكثر كحدث بصري وعملي.
تهدئة الحرب التجارية، تنازلات ملموسة في مواد استراتيجية، وإعلانات يمكن رصد أثرها السوقي سريعاً.
التركيز الإيطالي تزامن مع قراءة أن المشهد العام يوحي بتعادل مؤقت أو «تسوية» يصبّ في مصلحة الاستقرار الاقتصادي العالمي، ومن ثم في مصلحة فرص الأعمال والتبادل.
ما تدل عليه هذه اللحظة بالنسبة لاستراتيجيات العالم
أولاً، على الولايات المتحدة: سيكون عليها الموازنة بين خطوات تكتيكية لتهدئة المواجهة قصيرة الأجل وبين استراتيجية أطول أمداً لإدارة المنافسة التكنولوجية والجيوسياسية.
إذا انتهت الإجراءات إلى مجرد «هدنة» وقتية فقد نجد تنافساً أكثر تعقيداً لاحقاً عندما تعيد كل قوة ترتيب أدواتها للنفوذ.
التحليل في هذا الجانب دعا الولايات المتحدة إلى عدم الاكتفاء بردود فعل عرضية.
ثانياً، على أوروبا: ضرورة صياغة سياسة مستقلة وواقعية. هذا لا يعني الاصطفاف، بل يعني حماية المصالح الاقتصادية والأمنية عبر بنية سياسية أوروبية أكثر تماسكاً تجاه الصين وأمريكا معاً، والاستثمار في سياسات صناعية وتقنية تحصّن أوروبا من الضغوط المحتملة على سلاسل التوريد.
ثالثاً، على الأسواق والمستثمرين: التهدئة قد تزيل بعض عناصر عدم اليقين قصيرة الأمد، مما يمنح فرصة لإعادة ضبط مراكز الاستثمارات، لكن استمرار عدم اليقين في القضايا الجوهرية يعنى أن تقلبات دورية في أسواق التكنولوجيا والسلع الاستراتيجية ستستمر.
في المجمل.. هل انتهى زمن الصدام أم بدأ زمن إدارة التنافس؟
لقاء بوسان لا يغيّر جوهر المنافسة بين قوتين تسعيان إلى قيادة مستقبل التكنولوجيا والاقتصاد الدولي، لكنه يبيّن انتقالاً في أساليب المواجهة، من صدام مفتوح إلى إدارة تنافسية أكثر دقة، حيث تُستخدم الدبلوماسية المباشرة والتفاهمات التكتيكية لتفادي أزمات عميقة تُضرّ بالجميع.
الصين ظهرت في هذا المشهد كطرف قادر على تحويل التهدئة إلى «منجز إعلامي ودبلوماسي»، واستثمار هذه اللحظة لصالح تقوية سرديتها الدولية ومرونتها الاقتصادية.
الولايات المتحدة من جهتها استخدمت اللقاء لخفض التوترات مؤقتاً ولحماية مصالحها الاقتصادية، لكن السؤال المفتوح هو إن كانت هذه الخطوات ستترجم إلى استراتيجية شاملة طويلة الأمد أم ستبقى هبات تكتيكية.
ويشير مراقبون إلي أن التغطية الأوروبية، خاصة التحليل الألماني والإيطالي، بدا أن الصين نجحت نسبياً في استثمار المشهد لصالح صورتها ونفوذها، بينما بدت الولايات المتحدة في موقع يتطلب مزيداً من العمق الاستراتيجي لدرء مخاطرة فقدان مقومات قيادة قديمة في ميادين التكنولوجيا والاقتصاد.
ويعتبر مراقبون أن أوروبا — كفاعل ثالث — مضطرة الآن إلى إعادة تركيب سياساتها لتفادي أن تتحول لحضور هامشي في لعبتي النفوذ والاقتصاد العالميين.
ويري مراقبون بأن بوسان كانت محطة دبلوماسية رمزياً مهمة، وفتحت نافذة زمنية من التهدئة المؤقتة على صعيد التجارة والرسائل السياسية.
 
                    




