29 - 10 - 2025

مؤشرات | الفاشر مأساة سودانية ومخاوف من رائحة الموت

مؤشرات | الفاشر مأساة سودانية ومخاوف من رائحة الموت

قال لي محدثي السوداني بعد عودته إلى بلاده في أعقاب غياب أو تهجير طوعي، أو قل قسري بسبب حرب منذ عامين ونصف العام، "إن الوضع مأساوي، فقد وجدت حالات تخريب في بيتي، وتدمير لبيوت أخرى، ولكن الأكثر مأساة هو وجود رفات قتلي في بعض الغرف والحمامات، وهي عبارة عن هياكل عظمية، لقتلي إما قد تم قتلهم، وتصفيتهم، وهياكل أخرى لما يبدوا أنهم أشخاص تم حبسهم في غرف، حتى ماتوا جوعاً).

تلك الكلمات هزتني، وتذكرت عندما كنت أتابع أحداث حرب قوات التحالف لتحرير الكويت، من القوات العراقية، فعند دخول الكويت، وجدنا جثثاً في بعض المنازل، إما أنها لقتلي قبل انسحاب القوات العراقية، أو قتلي من فترات أطول خلال شهور الغزو.

نفس الشيء حدث عند الغزو الأمريكي للعراق، فقد ملأت الجثث المنازل، وبين ركام التدمير والدمار، وهي ذات المأساة التي يعيشها أهل غزة حالياً، نتيجة حرب الإبادة التي ارتكبها الكيان الصهيوني المحتل على مدى نحو عامين، فهناك آلاف المفقودين تحت الأنقاض، ستتكشف عنهم العديد من الحقائق في الشهور المقبلة.

إلا أن مآسي ما يجري في السودان وفي الفاشر حالياً هي الأسوأ في الحرب (الأهلية) على الأراضي السودانية، بدعم وتمويل خارجي، دون أدني مسؤولية، بل بهدف تصفية السودان للمرة الثانية، وربما الثالثة، وتشهد الفاشر حالياً أكبر بل أسوأ جرائم الحرب على يد أبناء وطن واحد، فخلال 48 ساعة - بحسب معلومات رسمية وإعلامية - تم اعدام أكثر من 2000 شخص، على أيدي قوات الدعم السريع - المتمردة والمدعومة خارجيا - غالبيتهم كبار سن، ونساء وأطفال.

الفاشر أهم وأكبر مدينة في إقليم دارفور وعاصمة شماله، والذي يمثل حوالي ربع مجمل مساحة جمهورية السودان، وبالتالي انسحاب الجيش السوادني منها، - بحسب ما أعلن ذلك خشية من تدمير المدينة، - هو تحوُّل خطير في مسار الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل 2023، خصوصاً أنها الامتداد الاستراتيجي لغرب السودان وولايات كردفان والشمالية ونهر النيل، بخلاف الأهمية الإستراتيجية للفاشر فهي الخط الحدودي مع أربع دول، تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان.

وبعيداً عن كل هذا فإن المعلومات من أطراف مختلفة، توضح أن ما تقوم به قوات الدعم السريع، يدخل تحت بند جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، خصوصاً ما يتعلق بما جرى من جرائم قتل وتصفية لمدنيين من أهل الفاشر، وهو ما أكدته تقارير، وتحذيرات من الأمم المتحدة، والتي أقرت بتزايد مخاطر الانتهاكات والفظائع، والتي اتخذت مناحي عرقية، في ظل عنف مستمر.

ومن هنا تأتي المخاوف من تكرار المشاهد التي رصدها العائدون إلى السودان في بيوتهم، من رفات وجثامين واشلاء القتلى في البيوت، والحدائق، وبين الزروع، وقد يكون ما فعله الجيش السوداني بالانسحاب من الفاشر، مقبولا، حفاظاً على المدينة من الدمار، والناس من القتل والإعدام، وتفاديا لتكرار مجازر مماثلة، إلا أن المخاوف ستظل قائمة من حرب همجية بدوافع خارجية، مع وجود تساؤلات بحاجة إلى إجابات.

وهناك أبعاد أخرى لخطورة ما يجري في الفاشر بغرب السودان، منها أن وجود قوات الدعم السريع بها، وسيطرتها عليها، يعني سيطرة كاملة للدعم السريع على إقليم دارفور، دون أي قوات مواجهة ودفاع عن الإقليم من الجيش، وفصل شامل لغرب السودان عن وسطه وبالتالي شرقه، جغرافياً وإستراتيجياً وسياسياً، وربما يعيث فساداً، وقتلا وتدميراً، مخلفاً جثثاً وأشلاءً بشرية في الشريط الطويل "درافور" والذي يضم خمس ولايات، هي "ولاية شمال دارفور وعاصمتها مدينة الفاشر، وولاية جنوب دارفور وعاصمتها مدينة نيالا، وولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة، وولاية شرق دارفور وعاصمتها الضعين "

وحتى الآن لا توجد تفسيرات مقنعة لانسحاب الجيش السوداني سريعاً من الفاشر، وسط تفسيرات عديدة لما جرى، وترك أهلها تحت سلاح القتل ورائحة الموت التي تفوح في أرجاء المدينة وربما الإقليم كله، وخشية أن يمتد ذلك لأقاليم أخرى في الجوار (الدارفوري).

ومن التساؤلات المهمة أيضا، لماذا الانسحاب من الفاشر والتي لها ومحيطها الكثير من الأهمية الاقتصادية،؟ - طبعا بخلاف الأهمية للجوانب العسكرية - فشمال دارفور غني بالموارد الطبيعية، والثروة الحيوانية والمعدنية، ومن مناطق التعدين، خاصة الذهب ومناجمه.

في ظل هذا خرجت أصوات في أعقاب ما جرى في الفاشر، تعيد الدعوة مجدداً للعودة إلى بيان "الرباعية"، والذي ضم "الولايات المتحدة، مصر، السعودية، الإمارات"، والذي دعا إلى تشكيل حكومة مدنية انتقالية، لا يدخل فيها الجيش وقوات الدعم السريع.

فهل ما جرى ويجري هي مرحلة جديدة لمسار الحرب، أو العودة إلى طاولة المفاوضات، أو دخول أطراف أخرى في الصراع، لصالح أطراف دون الأخرى، ... أم ينتظر الجميع "تدخلات دونالد ترامب"؟، أم ترتيب لكل هذا، أو غيره؟!.

ما يهمنا في مصر، أن السودان هي العمق الإستراتيجي الإفريقي (النيلي) لنا، وأن استقرار السودان هو استقرار لمصر، والحفاظ على وحدة أرضه وشعبه، وحمايته من الانزلاق إلى مسارات فوضوية وعسكرية، قد تضر بالمصالح المشتركة، ومن هنا جاء التحرك المصري مع أطراف عديدة، فكفى مزيدا من رائحة الموت التي تزكم الأنوف وكفى مزيدا من إزهاق أرواح الآلاف.
---------------------------------
بقلم: محمود الحضري


مقالات اخرى للكاتب

مؤشرات | الفاشر مأساة سودانية ومخاوف من رائحة الموت